صفوف متصدعة في الحركة الوطنية الفلسطينية

بقلم روبرت بلتشر (*)

ترجمة : زهير عكاشة

لا شك أن الهزة التي طال توقعها داخل فتح الحزب الحاكم في السلطة الفلسطينية وأضخم عنصر من عناصر منظمة التحرير الفلسطينية، حلت وإن لم يكن بالطريقة التي تمناها أبطال الإصلاح الداخلي. فبعد أن فشلوا في دفع أجندتهم إلى الأمام من داخل الحركة، شكل متمردو فتح قائمة منفصلة لانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني المقرر إجراؤها في 25 يناير 2006. حيث دعت الجمهور إلى تسوية حساباته مع شيوخ الحزب. وبما أن شبح الهزيمة يحوم فوق رؤوس المسؤولين الكبار في السلطة الفلسطينية، فقد تحرك الرئيس محمود عباس لإعادة المتمردين، بيد أن مداولات الدهاليز لم تستطع تهدئة الفتنة داخل الحزب.

فتح اليوم هي مزيج مشوه من التحالفات والشبكات الشخصية كالرأس الذي لا يملك أدنى مستوى من الوضوح، أو أي عملية صنع قرار شفافة. المؤتمر العام لحركة فتح وهو أعلى هيئة داخل الحركة فوِّض باختيار الهيئتين الحاكمتين وهما اللجنة المركزية والمجلس الثوري، لم يعقد منذ عام 1989. ولهذا بقيت أقوى العناصر داخل الجهاز الرسمي للحزب احتياطياً لأولئك الذين يوجهون منظمة التحرير من الخارج، وبالتحديد من تونس قبل تشكيل السلطة الفلسطينية عام 1994. وخلال فترة ولاية ياسر عرفات كرئيس لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، ضمرت الهيئات والمجالس المختلفة التي ليس لها أي صلاحيات حقيقية لتصبح أداة للكسب الشخصي.

لقد أجل عرفات مراراً وتكراراً عقد المؤتمر باسم الوحدة الوطنية رغم المطالب القوية من قبل اللجنة الحركية العليا التي يتزعمها المحاربون القدامى في انتفاضة 1987-1993.

بعد أكثر من نحو عام على وفاة عرفات لم تتخذ فتح أي خطوة ملموسة نحو إعادة بناء هيكلياتها التي استندت اليها الحركة الوطنية الفلسطينية على مدار سنين في المنفى. وقد فسر هذا الضعف المؤسساتي، وهو تفسير خاطئ، على أنه صراع أجيال بين شيوخ الحزب وحرسه الشبابي الذي قضى معظم حياته في الضفة الغربية وقطاع غزة يسعى إلى تنمية رأسماله السياسي عبر الأنشطة على الأرض. إن تفسير الصراع وكأنه صراع بين قيادتين متناحرتين، القيادة التي عاشت في المنفى تحرض ضد مروان البرغوثي ومحمد دحلان وزير الشؤون المدنية، لهو افتقاد للواقعية. والصحيح هو أن هذا التناحر الصاخب هو مجرد حصيلة لنظام حكم عرفات القائم على شخصه ونتاج الأنيميا (فقر الدم) المؤسساتية المصاب بها الحزب. لا ينبغي أن يخلط المرء بين الكفاح من اجل إعادة تصميم الهندسة الداخلية للحزب وبين الصراعات الشخصية لأفراد القيادة. وكما أشار معين رباني كبير المحللين في شؤون الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية "الصراع الدائر الآن في حركة فتح هو صراع متعدد الأعداء وليس بين عدوين اثنين وهذا يعني أن الحزب يواجه احتمال التفسخ بدل احتمال الانقسام المرتب". هذه الحالة حولت المفاوضات حول القائمة الانتخابية لفتح إلى تمرين على دبلوماسية الباب الدوار بمعنى أنه حتى لو نجح عباس في إعادة كبار المتمردين إلى حظيرتهم، فعندئذ سينسحب آخرون. هذه المظلة الواسعة المسمية بفتح لا تستطيع أن تستوعب كل أولئك الذين بحثوا سابقاً عن الاحتماء تحتها، وبالتالي تآكل وضع الحزب الذي كان يوصف بسفينة القيادة للحركة الوطنية الفلسطينية.

بإسهاب أكثر، إذا ما أُخذ بعين الاعتبار تفوق فتح على المشهد السياسي الفلسطيني، نجد أن هذه الفوضى في صفوف الحركة ستشكل عاملاً كبيراً على زعزعة السلطة الفلسطينية والحركة الوطنية الفلسطينية برمتها.

فقدوا الأرضية

لقد سار عباس على خطى عرفات منذ أن تولى مقاليد السلطة، فقد دأب على تأجيل إجراء أي تغييرات في الحزب وفي الحكم الفلسطيني باسم الوحدة الوطنية. والواقع هو أن تنصيبه في نوفمبر 2004 كقائم بأعمال الرئيس ورئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، أثار شكاوى واسعة النطاق ضد هذه العملية، لكنها نحيت جانباً لصالح انتقال السلطة بسلاسة. كما أن تصرف البرغوثي (مرة أريد خوض الإنتخابات الرئاسية ومرة لا أريد، ونعني انتخابات يناير 2005 التي فاز بها عباس) جاءت لتصب في هذا المضمار كون المنافسة الشديدة والتعبئة الجماهيرية اللازمة لتنشيط قاعدة الحزب بهتت بفعل شيئين وهما الإحتلال الإسرائيلي وضروريات الوحدة.

الإصلاح المؤسساتي بدأ على شكل طقوس لكنه تأجل في نهاية الأمر. استغل عباس الانتخابات لتمزيق عباءة هيكليات الحزب التي استفادت من إحسان عرفات وخنوعها لأساليبه الأوتوقراطية. رهان الرئيس هو أنه مازال يبرز في القمة.

في الوقت نفسه خسر حزب عباس خسارة ملحوظة أمام منافسه السياسي الأول، فبعد أن تجلى ضعف فتح، استطاعت حماس حصد مكاسب عظيمة في أربع جولات انتخابية بلدية، ولقد بلغ هذا التيار ذروته في ديسمبر 2005 عندما حصلت حماس على نسبة ضخمة من أصوات الناخبين (75%) في معقل فتح التقليدي وهي مدينة نابلس.

 لا شك أن آلة حماس، جيدة الأداء، عززت الشكوك أو دعمت مخاوف البعض من أن الإسلاميين سيحصلون على عدد لا بأس به من مقاعد المجلس التشريعي في الإنتخابات المقبلة. بدأ نهج حماس نحو السباق الانتخابي بداية جيدة قبل يوم الانتخابات، وذلك عن طريق اختيار قائمة من أفضل المرشحين. ولقد استطاع هذا الحزب اجتذاب بعض أفضل الشخصيات في فلسطين، عن طريق تقديم الدعم المالي والمؤسساتي إلى أشخاص ذوي سمعة محترمة وإتباع نفس أسلوب فتح من حيث تشكيل تحالفات مع مستقلين من الطراز الأول دون اللجوء إلى فرض اختبار عباد الشمس.

وعلى النقيض من ذلك قدمت فتح للناخبين "نفس الشيوخ، هم أنفسهم" حسب تعبير أحد المراقبين المحسوبين على فتح. مجرد استلامهم لمهام منصبهم بدأ أعضاء حماس يوفون بكثير من الوعود التي قطعوها على أنفسهم في صالة البلدية. فبعد يوم واحد من انتخابات مجلس بلدية دير البلح بقطاع غزة، خرج رئيس البلدية الجديد من حماس ليدعو مؤيديه إلى الخروج لتنظيف الشوارع المهملة منذ أمد بعيد قائلاً "إن فعل الخير لا يحتاج دائماً إلى أموال" ولقد أفاد المستشارون الدوليون من جانبهم أن علاقات العمل تجري بشكل سلسل للغاية مع المجالس البلدية التي فازت بها حماس.

يراهن أنصار فتح على فرضية وهي أن سمعة الإسلاميين في الإدارة المحلية الفعالة لن تترجم بالضرورة إلى نصر على الصعيد الوطني. تميل نتائج استطلاعات الرأي إلى أن كثيراً من الفلسطينيين الذين صوتوا، هم أنفسهم ضد الفساد، ولصالح الكفاءة في الإنتخابات البلدية سيبحثون عن خصائص أخرى بما في ذلك اللباقة السياسية في السلطة التشريعية. أضف إلى ذلك فإن مستقبل مساعدات الدول المانحة التي تعتبر على نطاق واسع الحاجز المنيع الذي يفصل الايفائية (القدرة على تسديد الديون) عن الإفلاس لدى السلطة، وضع دائما موضع تساؤل في الحملة الانتخابية، ولطالما تعالت أصوات فتح في مكبرات الصوت في شوارع غزة تذيع هذه الرسالة قائلة بأن فتح هي الوحيدة القادرة على ضمان تدفق مساعدات الدول المانحة.

 يرى كثير من المراقبين أن أداء فتح السيئ في الإنتخابات البلدية الأخيرة لا يعود لسمعة حماس الحسنة بل للأسلوب الخاطئ في التكتيك، فبإنزالها تخمة من المرشحين إلى ساحة الميدان، تكون فتح، كما يقول منتقدوها، قد قسمت قاعدتها وفتحت الباب أمام الإسلاميين. مع ذلك لا يبدو أن فتح قد استوعبت الدرس في السباق نحو الفوز في الإنتخابات التشريعية، ولم تتعلم من أخطائها.

صفوف متصدعة

وزير المالية الفلسطيني السابق سلام فياض أول دعامة من دعامات السلطة الفلسطينية يندفع خارج الميدان. حاول فياض تطبيق ما تسميه الدول المانحة "النظام المالي" على السلطة الفلسطينية لكن جهوده قوضت عندما حاول عباس، واستجابة لضغوط دولية، شراء الهدوء في الأراضي المحتلة بدمج مسلحي فتح الشباب في الأجهزة الأمنية وإضافتهم إلى كشوف الرواتب الفلسطينية. والعجيب أن المطالبة برواتب إضافية أثار شكاوى المانحين لفياض، وهو موظف سابق في البنك الدولي، ومحبوب لدى المانحين الغربيين لجهوده في كبح جماح الإنفاق العام. بعد أن رأى أن مجال المناورة أمامه ضيق وان سمعته كإصلاحي قد تتعرض للخطر، استاء فياض أن يوضع اسمه ضمن قائمة من المرشحين "التونسيين" غير المحبوبين. وفي المقابل شكل قائمة جديدة أطلق عليها أولا اسم الحرية ثم غيَّرها وسماها الطريق الثالث. كون هناك وجود حزب بهذا الاسم فهذا يشير إلى أن هناك مرحلة أخرى من التحول الشامل في السياسات الفلسطينية. وعلى النقيض الصارخ من الفترات السابقة فإن نصف المرشحين الفلسطينيين اليوم يصفون أنفسهم "باللا منتمين" مندفعين لوحدهم لا يريدون رعاية حزب كبير، وبالمناسبة فقد انضمت حنان عشراوي هي وآخرين إلى قائمة فياض.

إذا حصلت فتح على أغلبية في المجلس التشريعي أو شكلت تحالفاً مع قوائم علمانية أخرى فقد يكون فياض الأفضل لتولي مهام رئاسة الوزراء. لا شك أن أوراق اعتماد فياض ستكون رأس المال السياسي الذي بعثره أداء السلطة الفلسطينية عام 2005، والذي يفتقر إلى الإشراق رغم أن الشدة في قبضة اليد كلفته جانب من مصداقيته على المشهد المحلي. هناك من الفلسطينيين من يتهم فياض بعصر طبقة الفقراء عندما حاول إصلاح البيروقراطية الفلسطينية، فهم يقولون "إنه رجل صندوق النقد الدولي فإذا أراد موظف كبير في السلطة إنجاز معاملة مالية تنجز بسرعة وبكفاءة، بينما اسر الفقراء والأسرى تنتظر شهوراً للحصول على حفنة قليلة من النقود. هل هذا إصلاح؟ حجب الأموال عن الفقراء؟ النخبة تحبه لأنه أبدى جدية في جهود الإصلاح لكن بالنسبة للناس العاديين الأمر أسوأ الآن".

الأهم من قائمة فياض هو تشكيل قائمة المنشقين التي تسمي نفسها قائمة المستقبل. لم يستطع متمردو فتح عقد المؤتمر العام قبل الإنتخابات التشريعية توطئة للانتخابات التمهيدية للحزب، التي كان من المقرر أن تجري أوائل ديسمبر لكنها أجهضت بسبب المحاولات المدبرة من قبل أعضاء اللجنة المركزية الخائفين على خسران مناصبهم، وكذلك منشقو فتح الذين شعروا أن التصويت سيرتب ضدهم. مع عدم وجود نتائج رسمية يمكن الاعتماد عليها، تم تشكيل قائمة فتح الانتخابية ضمن صفقات وقعت في الغرف الخلفية في أجواء سادها عدم الثقة، وكانت عاصفة أكثر كثيراً من المعتاد. حاول عباس التفاوض على قائمة موحدة لفتح، وذلك مع مروان البرغوثي المسجون لدى إسرائيل لدوره في الإنتفاضة منذ عام 2002.

تعرقلت المفاوضات عندما خضع عباس لمطلب اللجنة المركزية بالاحتفاظ بأسماء مبغوضة على نطاق واسع على قائمة الوطن. ولكن عندما قدم عباس قائمة فتح الرسمية، ظهر اسم البرغوثي على القمة وهي خطوة لها مردود عكسي، حيث أحس البرغوثي أنها تهدف إلى الاستفادة من اسمه وإشباع غريزة الغرور عنده، حتى لو أنها تهمش أجندته السياسية.

واستباقاً للفشل أبرم البرغوثي في الوقت نفسه صفقة منفصلة مع قيادة أخرى من "الداخل" الذين ترعرعوا إبان الإنتفاضة الأولى. عندما انتهى موعد قبول طلبات الترشيح وجدت لجنة الإنتخابات المركزية نفسها أمام قائمتين منفصلتين كلتيهما بزعامة مروان البرغوثي.

زيت للنار

حدوث انقسام حاسم في صفوف فتح سيكون له عواقب كارثية على الحزب، ولكي نفهم السبب يستلزم الأمر معرفة شيء ما عن التغيرات التي طرأت على قانون الإنتخابات الفلسطينية الذي أقر عشية وفاة عرفات في نوفمبر تشرين ثاني من عام 2004. في السابق اختير أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني حسب الأغلبية في 16 محافظة في الضفة الغربية وغزة، وهذا الإجراء شجع على تشكيل شبكات رعاية استند جزء منها على العشائرية، ولقد حاول عباس الذي يقر بالحاجة إلى منح المجلس التشريعي مزيداً من الشرعية، الدفع باتجاه نظام التمثيل النسبي الذي تشكل فيه الضفة الغربية وغزة وحدة انتخابية واحدة، بحيث يصوت الناخبين لقائمة الحزب وتوزع مقاعد المجلس التشريعي حسب المجموع لكل الأصوات. كان يعتقد أن هذا النظام سيشجع انطلاق السياسات الوطنية الموجهة ويبدد أهمية المصالح الأبرشية. بيد أن الحصيلة الحالية من أعضاء المجلس التشريعي الذين تعتمد مقاعدهم بالدرجة الأساس على المكانة المحلية لجأت إلى الأساليب التعطيلية لمنع إقرار النظام الانتخابي النسبي. لم يستطع عباس التصدي لذلك والانتخابات التشريعية التي كان من المقرر إجراؤها في يوليو تموز أرجأت.

وفي النهاية اضطر الرئيس للموافقة على الحل الوسط الذي وقعت عليه حماس وسائر فصائل المعارضة الأخرى في القاهرة في مارس آذار الماضي، بمعنى أن تكون نصف المقاعد نسبية عبر نظام التمثيل النسبي الوطني بينما يخصص نصفها الآخر حسب القواعد القديمة.

مشكلة فتح على ضوء النظام الانتخابي الجديد هي مشكلة ذات شقين، فعلى صعيد النسبة الوطنية الانتخابية، فإن تحطم جهاز الحزب سيقوض جهود الحصول على الأصوات، فضلاً عن أنه سيعزز الانطباع الشائع وهو أن فتح مبتلية بمرض العداءات والضغائن الشخصية والتي رأى ناخبو نابلس أنها السبب الرئيسي وراء ازدرائهم للحزب في صناديق الاقتراع. في انتخابات المناطق سيكون للانقسامات داخل القوى العلمانية تأثير ساحق، فقوائم المناطق تتضمن مرشحين مستقلين من فتح، فلو تشرذمت قاعدة فتح فحينئذ سيفترس الحزب من قبل حماس الموحدة المنظمة في نظام الأغلبية، علما بأن حماس لا تواجه أي منافسة إسلامية من قبل حركة الجهاد الإسلامي التي تقاطع الإنتخابات. وحيث أن عواقب الانقسام تلوح في الأفق، فقد أخذ مسؤولين كبار في السلطة الفلسطينية يقرأون ذلك على الجدران، وسعوا وفشلوا في إقناع المتمردين بالانسحاب من السباق من أجل مصلحة الحزب ككل.

عندما انهارت المفاوضات على قائمة الحزب الوطنية اتصل مسئولون كبار في السلطة بواشنطن لإعلاء صوتها والطلب بتأجيل انتخابات المجلس التشريعي، بيد أن إدارة بوش المصابة بخيبة الأمل من سجل السلطة على مدار العام المنصرم لم تمل إلى تلبية الطلب، لأنها لا تريد أن تصعد على غصن شجرة جذعها متآكل. هناك شيء مهم أيضاً وهو أن الكل يساوره القلق من أن وجود متمردين في فتح ووجود حماس بأسهمها العالية للحصول على مكاسب تشريعية سيشعل شرارة موجه لا سابق لها من أعمال العنف. وحسب أقوال مستشار سابق في السلطة الفلسطينية "هناك قلق من أن تتحول كل فلسطين إلى كتلة من اللهب".

الجيش الإسرائيلي من طرفه يستعد ويتأهب لتزايد حدة الهجمات المسلحة ليس بسبب انتهاء سريان مفعول الهدنة التي وقعت في القاهرة في مارس آذار الماضي بحلول نهاية ديسمبر 2005، بل لأنه عندما تتعارك القوى الفلسطينية تنجر إسرائيل إلى الساحة. مع وجود إسرائيل ماضية في عملياتها العسكرية ليس ضد الجهاد الإسلامي فحسب بل أيضاً ضد حماس وكتائب الأقصى الذراع العسكري لحركة فتح، تكون الفرصة مهيأة لعودة العنف الشامل للانتفاضة، يؤججه أكثر هذه المرة التناحر الفلسطيني- الفلسطيني.

الحكومة الإسرائيلية التي تعارض مشاركة حماس في الإنتخابات، أعلنت أنها لن تسمح لسكان شرقي القدس بالمشاركة على أساس أن كل القدس تخضع للسيادة الإسرائيلية. وقد تبنت إسرائيل هذه الخطوة رغم أنها سمحت بإجراء انتخابات فلسطينية سابقة في عام 1996 وانتخابات الرئاسة عام 2005. هذا القرار الإسرائيلي كوسيلة لمحاربة حماس سيكون له تأثير عكسي. أصلاً حماس لا تتمتع إلا بتأييد محدود في القدس لكن هذا الإجراء التعسفي سيكشف ضعف السلطة الفلسطينية تجاه إسرائيل، وقد يزيد نسبة التصويت الوطني الذي يمكن أن يذهب لصالح الحزب الإسلامي. يبدو ا ن هذه الخطوة مدفوعة باعتبارات وبدوافع داخلية لان إسرائيل المتجهة نحو الحملة الانتخابية القادمة تريد أن تظهر مدى شدتها وصرامتها نحو حماس.

والقيادة الفلسطينية المرتبكة اقتنصت هذه الفرصة السانحة لتستخدمها كحجة لتأجيل الانتخابات، بيد أن حماس ومتمردو فتح أصرا على إجراءها في موعدها. وفي ظل هذه الأجواء من الفوضى، أوصى مروان البرغوثي بضم كتائب شهداء الأقصى لحماية مكاتب لجنة الإنتخابات وصناديق الاقتراع. ومع تقلص خيارات درء خطر الهزيمة الساحقة التي قد تمنى بها فتح في صناديق الاقتراع، انطلقت هذه الحركة لإعادة توحيد صفوفها. رفضت لجنة الإنتخابات المركزية قانونياً قبول قائمة انتخابية منقحة من فتح بعد انتهاء موعد قبول قوائم الترشيح، بيد أن محكمة العدل العليا الفلسطينية وافقت على إعادة فتح القوائم الانتخابية لتعويض الساعات التي فقدت التي اجبرها فيها المسلحون على تعليق التسجيل لانتخابات البرايمرز. يبدو أن عباس نجح مؤقتاً في إعادة ترميم الحزب، حيث أعيدت قائمة المستقبل إلى حظيرتها، كما أن أعضاء الحزب الكبار وأشخاص على مستوى رفيع في السلطة الفلسطينية كرئيس الوزراء احمد قريع الذين أُقنعوا بأن لا يرشحوا أنفسهم ضد قائمة فتح الموحدة ولكن التوتر بقي على حاله. عندما تسربت أنباء مفادها أن صناديد الحزب من أمثال انتصار الوزير ونبيل شعث احتفظا بمكان مضمون على قائمة فتح الموحدة، اشتعل العنف من جديد، وقد حدث صراع آخر عندما أعلن مرشحو القدس في قائمة فتح عن اعتزامهم سحب أسمائهم احتجاجاً على وضعهم في مكان متدني على القائمة.

نحو وصاية دولية

إن قضية كيف سترد الولايات المتحدة وأوروبا في حالة حصول حماس على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي، أخذت تتصدر الواجهة. لا شك أن هذه القضية جرى تداولها في الدوائر الدبلوماسية طيلة عام 2005 ولكن بدون حل. مادامت الورطة مقتصرة على مستوى البلديات، يستطيع المانحون والمؤيدون للسلطة الفلسطينية الاستمرار في المراوغة ولكن عليها في نهاية الأمر تبني موقف خاص في ظل المكاسب الكبيرة التي تحققها حماس والتي بدأت تلوح في الأفق. بالنسبة للإتحاد الأوروبي فإن الورطة التي خلقتها الإنتخابات البلدية هي أقل حدة كون الحكومات الأعضاء في الإتحاد لها الخيار في ضخ الأموال مباشرة للسلطة الفلسطينية، وهذا التعديل في حقيقة الأمر ينسجم انسجاماً تاماً مع خطة منح وزارة التخطيط في السلطة الفلسطينية دورا أكثر بروزا في تنسيق المساعدات. لا تستطيع الحكومة الأمريكية إرسال المساعدات بدون تفويض الرئيس. ومع اقتراب موعد الإنتخابات في الخامس والعشرين من يناير تتشدد حكومات الدول المانحة أكثر فأكثر في مواقفها. كان الكونغرس أول من دعا إلى اتخاذ قرار باستبعاد حماس من الإنتخابات وهدد بقطع مساعدات واشنطن للسلطة في حالة مشاركة حماس في الحكومة، لكن التصويت اتخذ طابعاً رمزياً إذا ما أخذ بعين الاعتبار القيود الحالية المفروضة على المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة للسلطة. وبنفس القدر من الأهمية جاءت تصريحات منسق السياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي خافير سولانا حين قال "سيكون من الصعب جداً المضي قدماً في تقديم المساعدات للسلطة الفلسطينية في حالة حصول حماس على الأغلبية. دافِعو الضرائب في دول الإتحاد الأعضاء في البرلمان الأوروبي لن يكونوا في موقف يتيح لهم دعم هذا النمط من النشاط السياسي. تعتمد ثلث ميزانية السلطة الفلسطينية على مساعدات دول الإتحاد الأوروبي. وإذا ما أخذ بعين الاعتبار أن الدعم المالي لن ينقذ السلطة الفلسطينية من أزمتها المالية الحتمية، فإن أي توقف مفاجئ للتمويل الأوروبي سيشكل المسمار الأخير في نعش السلطة الفلسطينية. في بيان صحفي صدر في 28 ديسمبر الماضي حاول المانحون الغربيون الرئيسيون للسلطة والمسمين بالرباعية التي تتألف من الولايات المتحدة والأمم المتحدة وروسيا والإتحاد الأوروبي، تخفيف حدة هذا الخطاب حين دعوا مجلس وزراء السلطة الفلسطينية إلى استبعاد أي عضو لا يلتزم بمبدأ حق إسرائيل في الوجود وبالعيش في أمن وسلام ونبذ العنف والإرهاب بشكل صريح لا لبس فيه". تهديد الإتحاد الأوروبي قد يكون مجرد هدير للتأثير على الناخب الفلسطيني الذي يقرر مدى أهمية مساعدات المانحين. وإذا مضى الاتحاد في التهديد فقد تجد الدول الأعضاء مخرج، كما يقول أحد مسؤولي المفوضية الأوروبية في القدس، فبدلا من أن تذهب الأموال مباشرة للسلطة الفلسطينية يستطيع الاتحاد أن يضخها للبنك الدولي الذي قد يصبح في الواقع دافع عن بعد لحسابات السلطة الفلسطينية بكل أنواعها لأن البنك الدولي يتولى أصلاً دفع رواتب موظفي السلطة الفلسطينية لتقليص حجم الفساد. وفي نظر نفس المسؤول في المفوضية الأوروبية "يعرف البنك الدولي بنفس القدر الذي يعرفه وزير المالية الفلسطينية كيفية إدارة المالية العامة للسلطة الفلسطينية. هناك العديد من صناديق الائتمان وبأربعة أو خمسة منها الموجودة حالياً يستطيع البنك الدولي إدارة الخدمات الطارئة. وكما أعرف يحضر البنك الدولي لهذا الوضع من مدة، مع أنك إذا سألت أي إنسان يعمل في البنك الدولي سيقول لك أن البنك موجود هنا لدعم السلطة الفلسطينية. لكن عليك أن تقر بأن الهيكلية موجودة والبنك الدولي يلعب دوراً هنا اكبر من أي دور يلعبه في أي مكان آخر".

بمجرد أن يتولى البنك الدولي دوره سيكون وضع فلسطين أفضل كي تصبح الثقة الدولية كاملة. تقوم وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين بتوفير الحاجات الأساسية للاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، وقد يقوم البنك الدولي بنفس الدور لغير اللاجئين. وبوجود عملية سلام لا لون لها ولا رائحة بفعل المبادرات الإسرائيلية أحادية الجانب، تكون السلطة الفلسطينية موجودة كورقة تين مؤسساتية تغطي الواقع الوحشي للاحتلال الإسرائيلي، يشرف على إدارتها منظمات ومؤسسات دولية. حماس من جانبها تسعى إلى تبديد هذا الاحتمال عن طريق مضاعفة عدد الإشارات التي تظهر أنها قد تتبنى خطاً تصالحياً يشمل المفاوضات مع إسرائيل في حالة انضمامها إلى الحكومة. هذا الوضع المرتعش للحكم الذاتي الفلسطيني يعود فيما يعود إلى نهج التأجيل تلو التأجيل للإصلاح داخل السلطة الفلسطينية وداخل الحزب الحاكم، والخاسر الكبير طبعاً هو الشعب الفلسطيني. لقد أعطى الضغط العالمي المطالب الفلسطينية بالإصلاح زخماً كبيراً، ولكن طالما لم يكن هذا الضغط كافياً ستظل التغيرات تأخذ الطابع الشكلي، وهنا لابد أن تساهم حماس مساهمة كبيرة كونها برهنت على كفاءاتها ونظافة حكمها.

اختبارات وتوازنات

يأمل محمود عباس بإعادة قائمة المستقبل إلى الحظيرة وأن يرأب الصدع في القاعدة الأساسية للحزب وللسلطة. ولكن هل سينجح؟ وإن كان الأمر كذلك ماذا سيعني هذا بالنسبة لإصلاح الحزب؟ لا شك أن مروان البرغوثي شخصية شعبية حقيقية، ولكن لا يتمتع جميع المتمردين بنفس هذا القدر من الشعبية في عيون الشعب الفلسطيني. حتى من هم اقل شعبية منه سعوا إلى إعادة تدشين مؤسسات الحركة الحكومية. لقد شعر البرغوثي بالأسف تجاه إخفاقات فتح الأخيرة، ولقد كتبت صحيفة القدس في مقالها الافتتاحي تقول "لا شك أن الإنتخابات المقبلة ستشكل انتفاضة ديمقراطية جديدة تؤدي إلى إعادة ترميم النظام السياسي الفلسطيني. ستنتج أطر عمل جديدة في مؤسسات جديدة تشكل كافة مراكز النفوذ في الشعب الفلسطيني". المشاحنات الداخلية في الحزب ستشكل فرصة للتغيير رغم تحفظات البعض على العملية والأسماء وراءها.

احتمال تأجيل الإنتخابات في الخامس والعشرين من يناير القادم احتمال بدأ يبهت رغم تعهد إسرائيل إلى حين كتابة هذه السطور بمنع ناخبي القدس من التصويت. بيان الرباعية في 28 ديسمبر أعرب عن عدم رضاه تجاه الموقف الإسرائيلي قائلا: "على الطرفين البحث عن آلية السماح لسكان القدس بالانتخاب وممارسة حقهم الديمقراطي الشرعي انسجاماً مع السابقة الموجودة". لا تريد إسرائيل قفل قناة الإتصال مع واشنطن حول هذه القضية. فقد ذكرت صحيفة القدس أن الحكومة الإسرائيلية أشارت إلى رغبتها في تليين موقفها حيال هذا الموضوع. على أية حال يبدو أن عباس مصمم على إجراء الإنتخابات في موعدها المقرر، لا لأن سمعة السلطة الفلسطينية دولياً ستتضرر إذا ما تم إلغاؤها بل بسبب إصرار متمردي فتح القوي عليها، ولأنه لا يكره أن يرى القيادة الحصينة وهي تزول. الورطة التي يواجهها الرئيس الفلسطيني تتمثل في أن هؤلاء الذين قد يفوزون في الإنتخابات سيستغلون ذلك لتقويض مكانته. ستخرج فلسطين بعد انتخابات الخامس والعشرين من يناير 2006، إلى عملية الفحص والتوازن في قوة الهيئة التنفيذية للسلطة بسبب الانهماك في الأنشطة السياسية في هذا المجال بدلا من الإصلاح المؤسساتي الجاد، وبالتالي سيتمخض ذلك عن سلطة فلسطينية مشلولة وليس سلطة ديمقراطية. الواقع هو أن التصدعات العديدة داخل فتح والتهديد الذي تشكله حماس ستوجبان التفكير من جديد وإعادة تنظيم مؤسسات الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها.


(*) مدير التخطيط السيناريوهاتي في مبادرة التقييمات الإستراتيجية ومحرر ميدل ايست ريبورت بتاريخ 1/1/2006 


الصفحة الرئيسية | مجلة المركز | نشرة الأحداث الفلسطينية | إصدارات أخرى | الاتصال بنا


إذا كان لديك استفسار أو سؤال اتصل بـ [البريد الإلكتروني الخاص بمركز التخطيط الفلسطيني].
التحديث الأخير:
03/05/2006 12:42 م