القضاء بين البدو

 تأليف: عارف العارف

مطبعة بيت المقدس،

القدس 1933، صفحة 264

مراجعة: س.م

ولد المؤرخ والباحث الفلكلوري الفلسطيني الأستاذ عارف العارف، بمدينة القدس في عام 1892، وأنهى دراسته الثانوية بمدينة اسطنبول عام 1910، ثم أتم دراسته الجامعية بنفس المدينة عام 1913. وعمل بعد تخرجه في ديوان الترجمة بوزارة الخارجية التركية. ومع إندلاع الحرب العالمية الأولى اشترك فيها كضابط تركي في جبهة القفقاس، حيث وقع أسيراً في يد القوات الروسية عام 1915، وقضى في سجون سيبيريا ثلاث سنوات فَرَّ منها هارباً إلى اليابان ثم الصين، إلى أن استقر في الهند، وكانت الحرب حينها قد وضعت أوزارها، حيث عاد إلى البلاد فأصدر صحيفة بعنوان "سوريا الجنوبية" بمدينة القدس، وهي أول جريدة عربية تصدر بعد الإحتلال البريطاني، ولم تستمر طويلاً.

شغل عارف العارف أيام الانتداب البريطاني وحتى عام 1948، وظيفة قائمقام لكل من مدن بئر السبع وغزة وجنين ونابلس وبيسان ويافا، وانتخب رئيساً لبلدية القدس عام 1950، ثم انتقل إلى شرقي الأردن حيث عُيّن وزيراً للاشغال في عام 1955. وفي أوائل عام 1967 عين مديراً لمتحف حكومة عموم فلسطين في القدس، الذي تم تغيير اسمه بعد حرب حزيران إلى متحف روكفلر، حيث توفي في القدس عام 1973، وقد منحته منظمة التحرير الفلسطينية وسام القدس في عام 1990.

كان لتعيين الأستاذ عارف العارف قائمقاماً لمدينة بئر السبع عاصمة النقب الفلسطيني في بداية ثلاثينات القرن العشرين، أثره الواضح في دراسته لهذه القبائل العربية البدوية، وبمضاربها المتناثرة في هذا المثلث "الجيوستراتيجي" الخطر "النقب"، حيث تعايش معها ومع ظروف حياتها المتميزة بوضوح بخصائص معيشية تفرّدها عن غيرها من أبناء فلسطين، فأخذ يجول بين هذه القبائل ويجلس مع رؤساء قبائلها وقضاتها، حتى وجد نفسه يصنع هذا الكتاب بعنوان "القضاء بين البدو" اعتمد فيه على أسلوب الدراسة الموضوعية والوصفية، حيث تناول مواضيع معينة قام بشرحها ودراستها دراسة تفصيلية معمقة، معتمدا بذلك أسلوب الدراسة الميدانية القائمة على الإستجواب الشخصي في معظم أبواب كتابه وكذلك على دراسته المكتبية، حيث اطلع على العديد من المصادر والمراجع والمخطوطات لكي يُجذِّر دراسته ويصل بها إلى جذور التاريخ الفلسطيني القديم.

ويعتبر هذا الكتاب بحق من الكتب الرائدة في علم الانثروبولوجيا، التي تهتم بدراسة تاريخ حياة الإنسان، كما يمكننا القول بأنه من الكتب النادرة في دراسة الفلكلور الشعبي الفلسطيني لأبناء البادية الفلسطينية.

 ومن الطريف أن هذا الكتاب يعتبر باكورة إنتاج عارف العارف الفكري، وقد تم طبعه بمطبعة بيت المقدس بمدينة القدس عام 1933، ولم تتكرر مثل هذه الدراسة لعارف العارف الرجل المؤرخ، الذي أغنى المكتبة العربية بعد ذلك بما لا يقل عن خمسة عشر كتاباً، ركزت معظمها على مدينة القدس، فكان له "تاريخ الحرم القدسي" (1947)، و"قبة الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى المبارك" (1955)، و"لمحة من تاريخ القدس" (1955)، ثم كتاب "نكبة فلسطين" بأجزائه الستة التي باشر بتأليفها عام 1956 وانتهى منها عام 1961، و"المفصل في تاريخ القدس" (1961). وهذا التركيز الواضح على القدس ليس بمستغرب على إبن من أبنائها عاش فيها وكافح وناضل من أجلها. هذا بالاضافة إلى كتاب "تاريخ غزة" (1943)، و"تاريخ بئر السبع وقبائلها" (1934).

ولسنا الآن بصدد تناول إنجازاته التاريخية، لكننا اخترنا باكورة أعماله الخاصة بكتاب "القضاء بين البدو" لنستعرض أبوابه العشرة بفصولها المتعددة. فالباب الأول، وعنوانه عرب بئر السبع، تناوله الباحث في خمسة فصول، بدأها بعرب بئر "السبع أصولهم" "وفروعهم"، ثم "عددهم". حيث بذل جهداً في ذلك، تعرض بعدها "لسجاياهم ولغتهم"، وهنا يقصد بالمعنى الأدق لهجاتهم المحلية. وتناول في الفصل الأخير موضوع "المشيخة".

فبالنسبة لاحصائهم يقول عارف العارف، بأن مدينة بئر السبع كانت تضم ثلاثة الاف نسمة، أما قضاء بئر السبع فقد بلغ سكانه سبعون ألف نسمة. وكانت أهم هذه القبائل هي" العزازمة – التيايهة – الحناجرة – الجبارات- السعيديين. وقد فنَّد عشائر كل قبيلة من تلك القبائل وعدد أفراد أسرتها بدراسة إحصائية يمكن أن تكون مرجعاً هاماً لتلك الحقبة. أما سجايا هذه القبائل، فقد أحصى في كتابه ثماني وثلاثين سجية، كالشجاعة، والجرأة، والتعصب للدين، وكرم الضيف، وحفظ الجميل، والفراسة، ..إلخ. أما اللغة، أو بالمعنى الأدق اللهجة، فقد قام بتسجيل بعض المفردات والمصطلحات الشعبية لدى أبناء البادية وقام بشرحها. وفيما يتعلق بالمشيخة، فقد ذكر عارف العارف، أن للشيخ نفوذاً ليس بعده نفوذ، ويرى أن هذا النفوذ أخذ يتضاءل مع الزمن، وقد عدد أسماء مشايخ لكل قبيلة ووثقها بصورهم التي تعد من أعماله النادرة اليوم.

الباب الثاني: وقد عنونه بعنوان كتابه "القضاء بين البدو" وقام بتغطيته بخمسة فصول، بدأها بنظرة عامة عن القضاء بين العرب  عامة، أتبعها بدراسة (قضاة العرب) ثم "محاكم العشائر في بئر السبع"، عدد فيها بعض ممارسات وأساليب هذا القضاء مثل "قرط الحصى" ثم "اليمين". وقد قام في هذا الباب بتصنيف مراتب القضاة، أو "المخاطيط" وفقاً لتخصصاتهم وهم: المْلَمّْ – الكواكب (الكبار) – أهل الديار – أهل الرسان – المناشد – الضريبية – الزيود – مناقع الدموم "القصاصين". وقد ذكر العديد من أسماء هؤلاء القضاة.

الباب الثالث: وقد خصصه لظاهرة (القتل)، حيث أفرز لها ستة فصول، كانت على التوالي: القتل – العطوة – الجيرة – الوجه – البُشْعة – الدية، فَنَّد فيها وباسلوب ظريف، كل الممارسات التي تقام في مثل حالات القتل أو الاعتداء، مصنفاً أنواعها ومدى خطورتها وما يدفع لكل حالة من الدية التي غالباَ ما كانت تدفع من الإبل أو الماعز والأغنام، وكان استخدام النقود نادراً.

الباب الرابع: وعنوانه (السرقات). وقد خصص له أربعة فصول وهي: السرقات – العدّاية –الوْساقة – الحسنى.

الباب الخامس: وقد أُفرد هذا الباب لدراسة أحوال المرأة البدوية، ومكانتها بين القبائل والعشائر، وذلك في فصول خمسة جاءت بدايتها عن حقوق المرأة البدوية وواجباتها، ثم في أحكام الوراثة، وفي الزواج والمهر، وفي والطلاق وتعدد الزوجات، والزنا. وكان لهذا الفصل الأخير أثره الواضح كما قال لي أحد كبار السن، في تعرض المؤلف للنقد الجارح، بحجة أنه قد تعدى حدود العرف والتقاليد البدوية في حينه لتناوله هذا الموضوع.

الباب السادس: وقد خصه لدراسة الحيوانات، وذلك بتغطيتها بخمسة فصول كالتالي: الخيل ومثانيها – الإبل – الوسم – حق الرعي – المياه وحق الشرب. حيث عدّد بالنسبة لظاهرة (الوسم) نحو سبعة وسبعين وسماً، أي علامة أو رمزاً، اتخذها البدو في وسم حيواناتهم، بحيث يكون لكل قبيلة وسماً خاصاً بها، وهي من أطرف ما كتبه عارف العارف، ولو أننا كنا نتمنى أن يشفع الوسم وشكله بأسباب اختيارهم لهذا الشكل من الوسم وما مدلولاته.

الباب السابع: وتحدث فيه عن مواضيع شتى، أهمها: الظعن والرحيل – حق الجوار – السلام – حق الصيد – حق الطنيب – القهوة – الغزو. وقد أحصى في هذا الباب منازل البدو، التي بلغت في ذلك الزمن ستة وستين موضعاً. وهذا يدلنا على أن بدو النقب لم يكونوا رحلاً بالمعنى الدقيق، بل كانوا في حقيقة الأمر شبه رُحَّل.

الباب الثامن: وقام فيه بدراسة بعض الجوانب الاقتصادية للحياة البدوية. فتحدث عن: ظاهرة المحل والخصاب – حالة البدو الاقتصادية – البيع والشراء – الأراضي.

الباب التاسع: وقد اهتم فيه بالجانب الصحي لابناء البادية وكيفية العلاج، أو التطبيب الشعبي من بعض الأمراض السائدة في هذه البيئة الصحراوية، وكيفية الاستفادة من الأعشاب النباتية البرية التي عدد الكثير منها.

الباب العاشر: وقد أورد فيه العديد من معتقدات البدو، معدداً أهمية بعض الأضرحة لديهم، والتي وضعها تحت عنوان "المقامات والأولياء".

 وهكذا يكون هذا الكتاب من المراجع الفلسطينية البالغة الأهمية في علم "الانثروبولجيا" والفلكلور، الذي يحتاج من الباحثين والدارسين مزيداً من الإهتمام، ليس فقط في إعادة نشره، بل والتعليق عليه ودراسته دراسة ممعنة مع كتاب "تاريخ قبائل بئر السبع"، الذي كتبه بعد هذا التاريخ بعام، أي عام 1934، فهما كتابان مكملان لبعضهما البعض تاريخياً وجغرافياً وانثروبولجياً، وكذا فلكلورياً يؤصل فيه الكاتب تاريخ أعرق القبائل العربية ومدى صلتها بالأرض الفلسطينية "النقب" التي هي من أدق المناطق العربية حساسية من الوجهة الإستراتيجية، ولما لقبائلها من عادات وتقاليد هي في أمَس الحاجة لإعادة التعليق عليها، وبخاصة أنه كان لهم قانون خاص، يمكن أن يطلق عليه "القانون الشعبي" فصَّلوا فيه لكل كبيرة وصغيرة، ووضعوا لها ضوابطها وعقوباتها، في وقتٍ كان فيه التسيب الإداري والإهتراء الأمني سائداً، وعليه أقاموا الحدَّ فيما بينهم بضوابط ثابتة، يقضي فيها القضاة وفق تخصصاتهم وبأسلوب له منا كل التقدير والإعجاب، الذي سوف يزداد بمقدار اهتمامنا بإعادة النظر فيما كتب تحقيقاً وتمحيصاً ودراسة، تمهيداً لوضع قانون وطني فلسطيني واحد يكون أساس الدولة الفلسطينية القادمة.

كما يكون عارف العارف قد ترك لنا وثيقة تاريخية جغرافية وفلكلورية، تؤكد حق أبناء هذه القبائل في وطنهم، والتي تحاول الصهيونية الآن وبشتى الطرق عدم اعترافها بملكياتهم، ، محاولة حرمانهم من الحد الأدنى للحياة كالسكن الدائم، أو حتى تزويدهم بالمياه، ومعاناتهم من التمييز العنصري. فها نحن اليوم ومع بداية القرن الحادي والعشرين، نرى أبناء هذا النقب قد حرمتهم تل أبيب من المياه الصالحة للشرب، وقد أعلنوا احتجاجاتهم بتقديمهم التماساً للمحكمة العليا لرفع التمييز العنصري عن 65 ألف مواطن من عرب النقب، وقد أكد ذلك الحاخام أشرمان الذي وصف سياسة إسرائيل ضد بدو النقب، بأنها سياسة (أبرتايد) أي تفرقة عنصرية.

ولا يسعنا أخيراً إلا أن نختتم بما قاله الأستاذ عارف العارف في ختام مقدمته: (فإذا كنت قد أصبت المرمى وتمكنت من تقديم أثر نافع لأمتي وبلادي فتلك هي أمنيتي، وإلا فلن أندم على ما بذلت).

 


الصفحة الرئيسية | مجلة المركز | نشرة الأحداث الفلسطينية | إصدارات أخرى | الاتصال بنا


إذا كان لديك استفسار أو سؤال اتصل بـ [البريد الإلكتروني الخاص بمركز التخطيط الفلسطيني].
التحديث الأخير:
16/01/2006 12:16 م