حول المستقبل اليهودي

 

ملحق الجيروسالم بوست 29/9/2000

 هذه المقالة، وتلك التي تليها، تناقشان ما يعتبر أنه القضية الداخلية الأساسية التي تشكل اليوم تحدياً لإسرائيل ولليهود في العالم، ألا وهي قضية المستقبل اليهودي: هل سيذوب اليهود في المجتمعات التي يقيمون فيها وهل ستتحول إسرائيل إلى  دولة ليست يهودية حصراً، وكيف ينظر المثقفون اليهود إلى  هذا المستقبل في القرن الحادي والعشرين باحتمالاته المختلفة؟

كاتب المقالة الأولى هو يوسي بيلين، وزير العدل الإسرائيلي السابق وأحد أقطاب حزب العمل والمعروف بإسهاماته الفكرية، والمبادرات السياسية العديدة، والتي في مقدمتها فكرة اتفاق إعلان المبادئ الفلسطيني- الإسرائيلي المعروف باتفاق أوسلو. أما كاتب المقالة الثانية فهو إيسا لايبلر، رئيس المكتب التنفيذي للمؤتمر اليهودي العالمي، وهو يرد فيها على طروحات يوسي بيلين ويعتبرها مهددة لاستمرارية "الشعب اليهودي".

مقالة يوسي بيلين

 كان جدي يوسف بريغمان، عضواً قيادياً في حركة أحباء صهيون الروسية، تلك الحركة التي ناهضت فكرة الحل المؤقت ليهود أوروبا المتمثلة في الحل الأوغندي الذي تبناه ثيودور هيرتزل وماكس نورداو خلال عامي 1903-1904، حيث فضلت الحركة الإنتظار من أجل صهيون بدلاً من أي حل جزئي غير كامل.  وإذ أنظر  الآن إلى  ذلك الماضي التاريخي، فإنني أعتقد اليوم بأن جدي وحركة أحباء صهيون قد أخطأوا حين رفضوا الحل الأوغندي. ولن يكون بمقدورنا  الآن معرفة ما إذا كان من شأن القبول بالخطة الأوغندية في ذلك الحين إلى  إنقاذ معظم اليهود الأوروبيين من الإبادة.

وعلى الرغم من أن جيل أحباء صهيون وأحفادهم قد حققوا قصة نجاح مذهلة هي إسرائيل اليوم، فإنني أعتقد أننا إذا ما أخذنا  الآن موقفا مماثلا لموقف أحباء صهيون من أزمة الذوبان اليهودي الحالية، وتبنينا حلاً واحداً هو "الهجرة إلى  إسرائيل"، فسيكون ذلك موقفاً غير حكيم.  فمثل هذا الحل سيكون حلاً مرتجلاً وغير عملي. و إذا كان مصير الشعب اليهودي ما زال مهما بالنسبة لنا في القرن الحادي والعشرين، فهذا يحتم علينا البحث عن حلول أخرى. إن هذه المقالة تسعى إلى  تفحص الحال الذي وصل إليه الجيل الأخير من الشعب اليهودي، والاتجاهات التي يتجهها، واقترح بعض الأفكار التي من شأنها تغيير تلك الاتجاهات.

أنطلق في طروحاتي هذه من مبدأ أساسي هو أهمية بقاء الشعب اليهودي بالنسبة لي. فأنا لا أسأل: "لماذا أكون يهودياً؟"  أو "لماذا الحفاظ على اليهودية أمر هام؟". فهذا الأمر بالنسبة لي أنا، الذي ولدت في الشعب اليهودي، هو أمر مسلم به.  فالإنسان إذ يولد في هذا العالم إنما يحتاج إلى  مرتكزات. هذه المرتكزات هي العائلة والعائلة الممتدة بما في ذلك القبيلة والشعب والدولة. ومن الطبيعي أن يفخر المرء بالإطار الذي ينتمي إليه. فما زال الأمر صعباً جداً، بل يكاد يكون مستحيلا، أن يكون المرء مواطناً عالمياً، وبخاصة أن كل شخص آخر له مرتكزاته الإضافية هذه. وبما إن هويتنا الذاتية هامة بالنسبة لنا، وبما أن يهوديتنا هي جزء من هذه الهوية الذاتية، فإن استمرار بقاء اليهود في العالم أمر هام بالنسبة لنا. فاستمرار بقاء شعب يهودي كبير نسبياً والحفاظ على ثقافته إنما هو أمر يصب في مصلحتنا كشعب، نحن الذين ولدنا يهوداً ونحتاج كشعب إلى  مرتكزات . فنحن نشعر غريزياً بالحاجة إلى  بث مشاعرنا الخاصة بيهوديتنا إلى  أبنائنا و نأمل أن يواصلوا هم وأحفادنا على هذا الطريق. هناك إذن "منتدى"  يهودي له اهتماماته الخاصة. فهو يتطلع إلى  المكانة ويحاول بث الإحساس بالكرامة في الأعضاء من أجل أن يظل هؤلاء الأعضاء راغبين في الإنتماء لهذا المنتدى. وهو يسعى إلى  ضمان طبيعته الحصرية. فهو يضم فقط أولئك الذين يرغبون في الإنتماء إليه-هؤلاء هم بشكل عام أبناء وبنات أعضاء المنتدى. فخلال العقد الأخير، كان همنا منصباً على البحث عن السبل التي من شأنها جعل هذا المنتدى جذاباً بما فيه الكفاية بحيث يكون الجيل القادم معنيا حقا بالإنتماء إليه.

 أعتقد أننا يمكن أن ننظر إلى  أنفسنا كلجنة "آباء" نسعى لتطوير "مدرسة" أطفالنا لمصلحتهم. وعلى مدى فترة طويلة، كان عمل اللجنة عملاً سهلاً. فكل اليهود كانوا ينتمون إلى  هذا "المنتدى" أو هذه "المدرسة"، وكانوا يمارسون أساليب حياتية متشابهة، ويجتمعون في تجمعات يهودية. أما الآن، فإن مهمة لجنة الآباء قد أصبحت أصعب بكثير، وذلك في عالم أصبح فيه معظم اليهود غير متدينين ولا يشعرون بالتالي بالحاجة إلى العيش إلى جانب اليهود الآخرين، وأصبحوا أكثر عرضة للزواج من زوجات أو أزواج ليسوا يهوداً. إن هذا التحدي سوف يتطلب جهداً كبيراً خلاقاً في القرن الحادي والعشرين. فمن السهل أن تقول لليهود المتدينين أن أمراً إلهياً يفرض عليهم الحفاظ على يهوديتهم. غير أن الحديث عن أوامر إلهية ليهود علمانيين لا يتوقع أن يترك تأثيراً.

كذلك لا يمكن إستدعاء الهولوكوست مراراً وتكراراً كذريعة لضرورة استمرار بقاء اليهود. إذ لا يمكن لنا أن نطلب من الأجيال المتعاقبة أن تعيش على نحو معين بسبب أن الشعب اليهودي قد عانى من مأساة الهولوكوست. فالمستقبل لا يمكن أن يتكرس للماضي. وعلينا أن نقنع اليهود كأفراد، بأن اليهودية إنما توفر السبل لحياة أفضل وأكثر إسعاداً. لم يعد هناك أي شك فيما يتعلق بأهمية دولة إسرائيل بالنسبة لمستقبل الشعب اليهودي. إن إسرائيل سوف تصبح أكبر تجمع يهودي في العالم خلال القرن الحادي والعشرين. وكل شيء يحدث في إسرائيل سوف ينعكس على كل العالم اليهودي وعلى نحو أكبر مما هو عليه الحال الآن.

لذلك، فإن أحد الآمال لضمان مستقبل الشعب اليهودي إنما يكمن في مأسسة الصلة بين إسرائيل والشتات غير إن هذا لا يمكن أن يكون الأمل الوحيد. فمصطلح "المنفى" لم يعد يستعمل لتعريف اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل. فهؤلاء اليهود يريدون عالماً يهودياً يتعامل مع التحديات يوماً فيوماً، في وقت يعيش فيه جزء من هذا العالم في إسرائيل وجزء آخر يعيش في أماكن أخرى. وهذا صحيح جداً بالنسبة للتجمع اليهودي في أمريكا الشمالية، ذلك التجمع الذي يعتبر أمريكا بأنها التجسيد الحي للحلم الصهيوني الأصلي المتمثل في الحصول على المساواة والاحتفاظ بالهوية اليهودية في آن واحد.

كانت القيادات الإسرائيلية تفضل دائماً أن يهاجر اليهود إلى إسرائيل بدلاً من تقديم الدعم لهم من الخارج. مع ذلك، فمن الواضح أن هجرة جماعية كبيرة إلى  إسرائيل ليست في المنظور، ولذلك فلابد لإسرائيل من أن تعمد إلى  إستثمار قوة الشتات اليهودي بعدة طرق. ويتضح  الآن أكثر  فأكثر  ليهود إسرائيل ويهود الشتات على حد سواء إن الوضع الراهن هو العدو الأكبر للطرفين. فإذا ما عجزت لجنة "الآباء" عن القيام بفعل ما، فلن يظل من الشعب اليهودي حتى نهاية القرن سوى اليهود الإسرائيليين وبعض اليهود المتدينين المتطرفين، إضافة إلى بعض من يعتبرون أنفسهم "من أصلٍ يهودي" هنا أو هناك والذين لن يكونوا جزءاً من الشعب اليهودي. لذلك فإن الحاجة للتحرك الآن هي أكثر الحاحاً من أي وقتٍ مضى من أجل التحكم في ذلك المستقبل المجهول. بل إن هذا الوقت هو أنسب الأوقات للتحرك، حيث يتمركز اليهود الآن في أكبر تجمعين وحيث الاتصال بين هذين التجمعين سهلاً للغاية.

والسؤال  الآن هو: ما هي الإجراءات الصحيحة التي يجب اتخاذها للحيلولة دون إن يشهد القرن الحادي والعشرون تلاشي الشعب اليهودي؟. إن أفضل الطرق المضمونة للبقاء يهودياً هي العودة إلى عصر ما قبل التحرر في القرن الثامن عشر. غير أن مثل هذا الخيار غير واقعي ولا مرغوباً فيه. فاليهود المتدينون المتطرفون ليسوا "اليهود الحقيقيين". أنهم يهود هاربون من الواقع ويحاولون تحاشي التأقلم معه. انهم يخلقون لأنفسهم "غيتو" سواء كان هذا الغيتو فعلياً أو متخيلاً. انهم يعيشون في عصر آخر ولا يكلفون أنفسهم عناء التساؤل عما إذا كان ممكناً أن يكون المرء يهوديا متدينا في خضم التكنولوجيا الحديثة.

الطريقة الثانية "لضمان" بقاء أحفادنا يهودا هو التأكد من أنهم يعيشون في إسرائيل، حيث يوجد أكبر تجمع يهودي لا يشكل الزواج المختلط إلا ظاهرة ثانوية فيه. غير أن التعليم في إسرائيل تعليم سطحي في الغالب، بل وهناك من يجادل بأن الدولة تفتقر إلى الطابع اليهودي. مع ذلك، فإن إسرائيل توفر البديل للغيتو الديني. فهي تساعد الفرد على العيش عيشة علمانية دون الحاجة للتخلي عن رفاقهم اليهود. هكذا تشكل إسرائيل خياراً جيداً لجزء كبير من الشعب اليهودي، ولكن في الوقت الراهن ليس للغالبية. لذلك فإن من يتحدث عن هجرة جماعية كوسيلة لضمان الاستمرارية اليهودية، إنما يتحدث عن ظاهرة سوف لا تحدث، ويكون بذلك قد تخلى اليوم عن غالبية الشعب اليهودي.

أما الخيار الثالث، فهو أكثر  تعقيداً. فهو يتضمن محاولة لخلق تجمع يهودي يكون بمثابة مظلة تقدم العضوية لأي يهودي في العالم يرغب في الانضمام إليها. ينظر أعضاء هذا الإطار إليه كمصدر للكرامة ولتمتين تعريف الذات وللانتماء إلى  "عائلة جيدة"، ويساعدهم في  الآن ذاته على الالتقاء وخلق الفرص للتزاوج. ان هذا العالم اليهودي سيكون قابلاً للتعامل مع العديد من مشاكل الحياة اليهودية المعاصرة بعيداً عن اللجوء إلى  التطرف الديني أو الذوبان في المجتمعات الأخرى. يمكن للجنة "الآباء" الاستفادة من اتجاه آخر يتواجد في أوساط الشتات اليوم، ذلك هو القلق من الذوبان وما يحمله من مخاطر على الاستمرارية اليهودية والبحث عن الطرق التي من شأنها تقوية التعليم اليهودي وكذلك العلاقة مع إسرائيل. فهناك في الولايات المتحدة مئات الصناديق المالية اليهودية المخصصة للتعليم اليهودي والاستمرارية اليهودية. هناك اليوم اهتمام خاص باليهودية، وبخاصة بين العديد من الذين اعتنقوا اليهودية والذين يصل عددهم حالياً إلى نحو مئة وخمسة وثمانين ألفاً. ويبدو أن المسألة بالنسبة لليهود الملتزمين جداً هي تقوية ارتباطهم والبحث عن الأجوبة، والسؤال هو: ما الذي يمكن عمله؟.

هناك مدرستان فكريتان بين صفوف أولئك الذين يعتقدون بوجود جواب لهذا السؤال_أي أنه يمكن عمل شيء ما-وينعكس هذا في تخصيص الاموال. فمدرسة "النخبة" تركز على النواة المؤلفة من يهود منخرطين وملتزمين، بينما تسعى المدرسة "العالمية" للوصول إلى  كل شاب وشابة يهوديين من خلال برنامج تعليمي يتضمن زيارات لإسرائيل وما شابه من الفعاليات. أعتقد بعدم ضرورة اختيار أي من المدرستين وإنه ينبغي العمل على الجبهتين في آن واحد.

فإذا كان هدفنا هو تخفيض الجدران التي تقسم الشعب اليهودي وتوفير الفرصة لأكبر عدد من اليهود للتحرك والقيام بالزيارات والعمل والدراسة في أكثر  من مكان، فسوف يتحتم على إسرائيل وربما بسرعة أكثر  مما يتوقع الكثيرون الانخراط في تحليل معمق، وإجراء تغييرين أساسيين: الأول هو: إلغاء القوانين الخاصة بالزواج الديني في إسرائيل، والثاني هو: وضع نهاية للاحتكار الديني المتزمت. نحن مدينون لأنفسنا كإسرائيليين بإجراء هذين التغييرين اللذين يشكلان أكبر عائق بين إسرائيل ومعظم العالم اليهودي. فالأفراد الذين يرغبون في عقد زيجاتهم في إسرائيل يجب أن يتم تسجيلهم من قبل مسجل زواج مدني، وكذلك بالنسبة للطلاق. وكل من يرغب في إقامة حفل ديني، فهو حر في ذلك.

كذلك فإن إتمام المسيرة السلمية يشكل متطلباً أساسياً آخر من أجل تحقيق الحلم الصهيوني. فالسلام ضروري ليس فقط بالنسبة لمواطني إسرائيل، إنه هام بالنسبة ليهود العالم، حيث أنه سيساعدهم على الأقل على اعتبار إسرائيل وطنهم الثاني.

من الذي سينتمي لهذا المنتدى؟

ليس معقولاً في القرن الحادي والعشرين، حيث معظم يهود العالم هم يهود غير متدينين، أن يتم الاستمرار في ترك سؤال من هو اليهودي بين أيدي السلطات الدينية. هناك بالطبع اختلاف واسع في درجة الانفتاح بين مختلف التيارات داخل اليهودية، غير أنهم جميعا يشتركون في نظرة حصرية متميزة، وجميعهم حريصون إزاء الاعتناق الجديد لليهودية، وجميعهم يصرون على أن يتم الإنتماء للشعب اليهودي من خلال عملية دينية. غير أنه كثيراً ما تحتوي عملية الاعتناق كذبة بيضاء. فمعظم المعتنقين الجدد يمرون بتلك العملية من أجل التمكن من الزواج من شريك يهودي. غير أنه يتحتم عليهم إقناع الحاخامات الذين يجرون عملية الاعتناق، بأنهم سوف يحتفظون بـ"الميتسفوت" –الواجبات الدينية- وبأنهم يرغبون في اعتناق اليهودية بإيمان صحيح. لذلك فإن الذين يرغبون في البقاء مخلصين لمعتقداتهم الحقيقية، يرفضون إجراء مراسيم اعتناق اليهودية حتى ولو كانوا يشعرون بالتماثل مع الشعب اليهودي والثقافة اليهودية. فلو كانت اليهودية مجرد ديانة لما كان بالإمكان تحدي ذلك الاحتكار الحاخامي ويكون الخلاف محصوراً بين الملل اليهودية المختلفة. أما وأن تكون يهودياً يعني "شيئاً آخر"، فليس هناك ما يدعو أن يقوم الحاخامون بتحويل الناس إلى  ذلك الشيء الآخر ضمن عملية الاحتكار هذه. فاليهودية هي أيضا صفة متعلقة بشعب وثـقافة ووجود. هناك الكثير من اليهود الملحدين أو اللا أدريين، ولا أحد يشكك بيهوديتهم.

لماذا يمكن لإنسان مثلي أن يكون يهودياً لا أدرياً بينما لا يسمح بذلك لمعتنق اليهودية الجديد؟ ولماذا يتحتم على إنسان ملحد أو لا أدري غير يهودي الذهاب إلى الحاخام إذا ما أراد أن يصبح يهودياً ملحدا أولا أدرياً؟.

وفقا لأحد التقديرات، هناك حالياً نحو ثمانية ملايين نسمة يعيشون في بيوت يهودية في الولايات المتحدة. ويشمل هذا العدد الزوجات أو الازواج والأطفال والآباء والأمهات اليهود أو لمعتنقين جدد لليهودية. ومن هؤلاء، هناك نحو مليوني شخص يشكلون جزءاً من البيوت اليهودية ولكنهم يرفضون اعتناق اليهودية. فهم يتماثلون مع الثقافة اليهودية، والعديد منهم يربون أطفالهم لكي يكونوا يهوداً، ولكنهم لا يرغبون في الانضمام إلى الشعب اليهودي عبر الطقوس الدينية.

وفي إسرائيل اليوم، هناك مئات الآلاف من أقرباء المهاجرين من الاتحاد السوفييتي السابق، وهم لا يرغبون في الخضوع لطقوس التهويد الدينية على الرغم من أنهم يمارسون حياتهم كيهود. وللأسف الشديد، فإن هذا الوضع يخلق مصاعب. فحين يقتل أحد الجنود من هؤلاء المهاجرين، لا يسمح بدفنه في مقبرة يهودية حين يتضح بأن أمه لا تعتبر يهودية. إن هؤلاء الناس، سواء كانوا أقارب ليهود أو يرغبون في أن يصبحوا يهوداً، يجب أن يتم منحهم حق الانتماء للشعب اليهودي استناداً إلى رغبتهم في أن يكونوا كذلك. إنني أتخيل حالة تتلخص في أن شخصاً غير يهودي ولا ينتمي لدين آخر يلجأ إلى الجماعة اليهودية التي يعيش في وسطها ويطلب تسجيله كعضو في هذه الجماعة. قد تطلب الجماعة منه إحضار شاهدين يهوديين وذلك على النحو المتبع في طلبات الإنتماء لأي نادي أو جمعية. فإذا ما اقتنعت الجماعة بصدق نوايا هذا الشخص، فهي تقوم بتسجيله كيهودي جديد في صفوفها بدون إجراء أي احتفال ديني. وإذا أراد هذا العضو الجديد أن يقيم حفل زواج وفق الملة الإصلاحية، فإن  الملة الإصلاحية تطلب منه التحول إلى  ملتها. وكذلك بالنسبة للملة المحافظة أو الملة المتزمتة. فكل يهودي جديد له الحق في تقرير ما إذا كان يريد أم لا يريد أن يتهود على الطريقة الدينية. وفي كلا الحالتين، فإن الجماعة اليهودية ستكون قد اعترفت به كيهودي استناداً إلى اختياره الشخصي في تعريف ذاته.

لا بد من مأسسة وضمان استمرارية العلاقة بين إسرائيل والجماعة اليهودية في أمريكا والجماعات اليهودية الصغيرة الأخرى المتناثرة في الشتات. ومن المثير حقاً اكتشاف أنه لم توجد في يوم ما أية مؤسسة مشتركة للجمع بين أكبر جماعتين يهوديتين في العالم. فاليهود في هذين التجمعين الذي يبلغ عدد كل منهما نحو خمسة ملايين نسمة، يقيمون على طرفي الأطلنطي. وعلى الرغم من وجود برنامج عمل طويل للمناقشة، فهم لا يجتمعون إلا حين تقوم وفود من جمعية النداء اليهودي المتحد (UJA) بزيارة إسرائيل أو حين يذهب إسرائيليون لحضور حفلات الغداء الخاصة بسندات القروض الإسرائيلية. إن هذا الوضع شبيه بوضع شقيقين يقيمان في غرفتين منفصلتين في منزل واحد، ولا يسمح لهما بالالتقاء إلا بإذن من الوالدين.

على الرغم من التحولات الهائلة التي شهدها العالم اليهودي، فإن المؤسسات اليهودية اليوم تكاد تكون على حالها الذي كانت عليه قبل عشرين سنة‍‍‍‍!. فكل ما شهدته الأعوام الأخيرة من إعادة توزيع لخريطة السكان اليهود، بما في ذلك فتح أبواب الاتحاد السوفييتي السابق وحقيقة أنه لم يعد هناك يهود محاصرون، أن كل ذلك قد خلق وضعاً يتطلب سلوكاً تنظيمياً مختلفاً. فكل المؤسسات القائمة حالياً هي مؤسسات محافظة بطبيعتها، وهي تجد دائما الأسباب للتذرع بضرورة عدم الغائها أو تغييرها. والسؤال الآن هو فيما إذا كان الشعب اليهودي يقبل باستمرار هذا الضعف المؤسسي في وجه التحديات التي تختلف كثيرا عن التحديات التي قامت تلك المؤسسات لمجابهتها.

تشكل مؤسسة سندات القرض الإسرائيلي نموذجاً للمؤسسات التي لم يعد لها أي دور تقوم به، ولكنها مع ذلك مازالت قائمة وتعمل بأسلوب تنظيمي كلاسيكي مهترئ. لقد أقيمت هذه المؤسسة كإطار لشراء سندات الحكومة الإسرائيلية من أجل توفير القروض طويلة الأجل التي كانت إسرائيل في حاجة ماسة لها في السنوات الأولى من نشأتها حين كان رأس المال اليهودي هو المصدر الوحيد لها وبفوائد مصرفية منخفضة. وعندما انخفض عدد اليهود الأمريكيين المستثمرين في السندات الإسرائيلية خلال السبعينات ثم الثمانينات، تحتم على هذه المؤسسة إما حل نفسها أو رفع نسبة الفوائد على القروض. وقد تم اختيار الخيار الثاني، وذلك في وقت أصبحت فيه إسرائيل تتمتع بسمعة دولية محترمة في مجال تسديد قروضها، ولم تعد تعتمد على سندات القرض الإسرائيلي لتمويلها. بل أن إسرائيل أخذت تدفع للسندات فوائد أعلى مما اخذت تدفعه للقروض الأخرى من البنوك التجارية. حين علمت بهذه الظاهرة الخاصة بهذه السندات لدى عملي كنائب لوزير المالية في الثمانينات، أخبرني بعض الموظفين الحكوميين بأن أحداً لم ينجح في وضع حد لهذه المهزلة، وبأنني لن أنجح في ذلك أنا أيضاً. وكان ذلك صحيحاً. فما زالت هذه المؤسسة البالية قائمة حتى يومنا هذا على الرغم من أن أحداً لا يستطيع تبرير استمرارها باستثناء رؤسائها والعاملين فيها. إن مؤسسة سندات القرض الإسرائيلي هي مؤسسة اصطناعية عديمة الفائدة، وهي تشكل واجهة زائفة للحوار بين الإسرائيلي الذي يقدّم حاجات بلده، واليهودي الأمريكي المانح الذي يسأل عن خبرات الحرب الإسرائيلية وفيما إذا كان أبناؤه يخدمون في الجيش.

إن حال الصندوق القومي اليهودي (JNF) لا يختلف عما سبق، بل هو أكثر  مدعاة للأسى. فحتى قيام الدولة، كان هذا الصندوق يشكل أوضح تعبير عن النضال الصهيوني. فقد قام بجمع الأموال من يهود العالم من أجل شراء الأراضي في فلسطين ومن أجل تمويل عملية الاستيطان. وحين قامت دولة إسرائيل، بدا وكأنه من الضروري حل هذا الصندوق ونقل الأراضي التي بحوزته إلى  ملكية الدولة. غير أن أياً من ذلك لم يحدث. كان استمرار الصندوق مناسباً للحكومة، وذلك لتحاشي نقل الأراضي إلى  العرب، ومن ثم، منذ 1967، الحصول على الأراضي في الضفة الغربية بذريعة مختلفة. من جهة أخرى، فإن يهود العالم ينظرون إلى  الصندوق على أنه مؤسسة أخرى لجمع الأموال التي من شأنها إدامة علاقة المانح بصفته جابياً يجمع الأموال لإسرائيل الفقيرة.

ولا يختلف حال الوكالة اليهودية وبخاصة في ضوء القرار الأخير الذي اتخذته محكمة العدل العليا والذي جاء فيه بان السياسة الاستيطانية التي تتبعها الوكالة هي سياسة تمييزية وغير قانونية. فعلى مدى العديد من السنوات، مازالت الوكالة تشكل أداة للتمييز بين اليهود والعرب، وتسيء فعليا إلى  المشروع الصهيوني، ولذلك يجب حلها. لقد أبدى الصندوق القومي قابلية للتأقلم مع المستجدات على نحو أفضل من المؤسسات الأخرى. غير أنه وعلى نحو أكثر من سندات القرض، فإنه قد أقيم على فرضية إسرائيل الفقيرة التي تريد المساعدات لاستيعاب المهاجرين ورفع المستوى المنخفض لاقتصادها والتعامل مع المشاكل الأمنية. إن نوع الحوار الذي كان ومازال يدور بين المانحين في الصندوق والممثلين الإسرائيليين في المناسبات الاحتفالية، او بين هؤلاء الممثلين والوفود الزائرة لإسرائيل التي يرسلها الصندوق، لم يكن في أي يوم حواراً بين متساويين، ولا يمكن له  أن يكون كذلك اليوم.

فالإصلاح الحقيقي يتطلب إقامة منبر إسرائيلي شتاتي حقيقي على الفور. فالحاجة الآن ماسة لكي تقوم الشخصيات اليهودية المركزية التي لها ما تقوله والتي تمثل قطاعات واسعة من الشعب اليهودي، بالجلوس معاً. إن مثل هذا المنبر من شأنه أن يتصدى للقضايا التي لا تناقش حالياً، أو أنها تناقش بأساليب تقليدية جداً، وذلك بهدف إيجاد إجماع حولها وإنهاء اللقاءات بسلام.

لقد اقترحت في عام 1994 إقامة "بيت إسرائيل" على شكل منظمة تقوم بإجراء انتخابات في جميع أنحاء العالم اليهودي بهدف تجنيد ما لا يقل عن مليون عضو من إسرائيل والشتات. إن مثل هذا كان من شأنه الغاء التمييز المصطنع بين  من هو صهيوني وغير صهيوني، ويوفر المكانة المتساوية للتجمعين اليهوديين الكبيرين. وقد ارتأيت أن يعقد هذا الإطار عدة اجتماعات في العالم على أساس منتظم في كل من نيويورك وإسرائيل، وأن تكون له الموارد التي تجمع من يهود الشتات والإسرائيليين لتمكين هذه المنظمة من ممارسة نفوذها بشأن سلسلة طويلة من القضايا، بما في ذلك قضية التثقيف اليهودي، وأن يكون "حق الميلاد" على النحو الوارد أدناه احد الرسالات المركزية في عمل هذه المنظمة.

برنامج حق الميلاد

هل هناك حل سحري للاستمرارية اليهودية؟ إن التعليم اليهودي هو بالتأكيد عنصر أساسي لضمان الاستمرارية اليهودية. ففي السنوات الأخيرة، حدثت عدة تطورات مشجعة في هذا المجال، غير أنها ليست ذات طبيعة ثورية. فالجهود المتضافرة قد خصصت لإنشاء مدارس نهارية في الشتات، غير أن خمسة في المئة من الأطفال اليهود في الولايات المتحدة يؤمون هذه المدارس. فالكثير من الآباء الذين يرغبون في تلقين أطفالهم تعليماً يهودياً يترددون في إرسال أطفالهم لمدرسة نهارية يهودية. كذلك الحال بالنسبة للزيارات إلى  إسرائيل. فالسر لا يكمن في توفير إمكانية هذه الزيارات، وإنما في اغتنام الفرص المتوفرة لذلك. لقد أصبح واضحاً لي بشكل لا يقبل الشك أن زيارة إسرائيل وبخاصة لطفل في سن المراهقة، إنما هي مسألة مرتبطة بقرارات لاحقة بشأن الحفاظ على نوع من الإطار اليهودي وتربية الأطفال كيهود.

يستنتج الباحثون الذين درسوا تأثير الزيارة لإسرائيل على شباب يهود أن معظم هؤلاء الشباب يحملون تجارب ايجابية. فالديناميكيات التي تتطور بين الشباب، كاللقاء بنظرائهم الإسرائيليين والمرشدين الذين يبثون معارفهم وتجاربهم لهؤلاء المشاركين، كل ذلك يؤدي إلى  نجاح تلك الدورات الصيفية. فهذه الفرصة النادرة للحصول على المعلومات من مصدرها حول إسرائيل الحديثة وحول جذورهم اليهودية، إنما تمنح هؤلاء المراهقين المشاعر بالاستقلالية الذاتية وبالهوية وبالهدف.

 في عام 1994، تقدمت بطلب إلى الاجتماع العام للاتحادات اليهودية ينص على حق "الميلاد" أي حق كل يهودي يافع بزيارة إسرائيل ضمن برنامج صيفي منظم يتم تمويله من مصادر يهودية. تتمثل الفكرة في تحويل الزيارات لإسرائيل من مجموعات صغيرة من السياح إلى مهرجان قومي لليهود الشباب. من شأن برنامج "حق الميلاد" أن يساعد الشعب اليهودي من خلال إسرائيل على الالتقاء بأكبر تنوع من اليهود من شتى الأمكنة، وعلى مراكمة مخزون كبير من المعلومات عن الشعب اليهودي عبر السنوات، ويكون بمثابة قناة لتبادل المعلومات.

لقد أصبحت فكرتي الأصلية هذه حقيقة واقعة مع تدشين برنامج حق الميلاد الإسرائيلي الذي تمكن هذا العام من جلب أول ستة آلاف مشارك إلى  إسرائيل.

واستناداً إلى  مشروعي هذا، تم تمويل هذا البرنامج من قبل الحكومة الإسرائيلية والجماعات اليهودية في مختلف البلدان ومتبرعين يهود مثل تشارلس برونفمان ومايكل شتاينهارت. إن هذا البرنامج الذي يتوقع له أن يجلب نحو خمسين ألف شاب يهودي إلى  إسرائيل على مدى السنوات الخمس القادمة، يقوم حالياً بتوفير أجور السفر جيئة وذهاباً مجاناً للمشاركين ممن تتراوح أعمارهم بين 18-26 عاماً والذين يشاركون في الفعاليات المقرة الهادفة إلى  تعريفهم بالإسرائيليين والحياة الإسرائيلية وثقافتهم اليهودية وتراثهم.

المجتمع اليهودي الافتراضي

بالإضافة إلى الاتجاهين المختلفين اللذين تمت مناقشتهما في شأن الذوبان بالنسبة ليهود الشتات وفي شأن الاهتمام المتزايد بالمواضيع اليهودية، فإن القوة التكنولوجية تشكل ظاهرة ثالثة يمكن تجنيدها للمساعدة في إعادة بناء العالم اليهودي وذلك من خلال جسر المسافات الفاصلة بين مختلف التجمعات. فالتكنولوجيا الجديدة توفر فرصة لبناء "القرية اليهودية العالمية". فتكنولوجيا الساتلايت مثلاً يمكن لها أن توفر شبكة تلفزة يهودية تستقطب عدداً كبيراً من الأتباع. وفي الحقيقة، فإن إقامة هذه الشبكة قد بدأت. ويمكن لهذه الشبكة التلفزية اليهودية أن تكون مشروعاً استثمارياً مربحاً من خلال عوائد الإعلانات التجارية. مع ذلك فإن تشغيل هذه الشبكة سيكون باهظ التكاليف وقد يكون جديرأً بهذه التكاليف. إنني انظر إلى  "بيت إسرائيل" كمنتدى للمناقشات الجادة لهذه الفكرة التي سوف تطرح على القطاع الخاص أو تمول من قبل الأموال العامة. وسوف يتم إنشاء سلطة خاصة لإدارة الشبكة بهدف ضمان الحد الأقصى من الانفتاح والموضوعية. إن البرمجة التلفزية اليهودية قد تصل إلى  العديد من اليهود غير الملتزمين، بينما تخدم الانترنت اليهود الملتزمين الباحثين عن المزيد من المعلومات اليهودية. إن إنشاء مواقع إنترنت علمانية ودينية وتقليدية سوف يشكل تحدياً كبيراً، وستكون له إمكانيات توسيع الدخول إلى  المعلومات اليهودية والمناقشات الخاصة بالفكر اليهودي والأحداث الجارية، والمحفزات الثقافية التي من شأنها فتح آفاق جديدة للحياة اليهودية.

من الواضح أن اليهود سوف يشكلون في القرن الحادي والعشرين جزءاً مرموقاً من العاملين في الاتصالات العالمية، وذلك باستخدامهم للاتصال الكمبيوتري البعيد كمحطات لأعمالهم كصحفيين أو منتجين للسوفت وير أو أي مجالات مهنية ذات صلة بصناعة المعلومات الاخذة بالنمو المتسارع. فالإسرائيليون المدعوون للعمل في أمريكا أو أوروبا سوف لا يضطرون لاقتلاع عائلاتهم من بيوتهم في إسرائيل، حيث سيكون في مقدورهم قضاء جزء من وقتهم في الخارج للحصول على مرتب مالي أجنبي، بينما يمكنهم الاحتفاظ بقاعدتهم في إسرائيل.

كذلك فإن يهود أمريكا أو أي مكان آخر سيكون بمقدورهم الحفاظ على عملهم في الخارج وقضاء جزء من وقتهم في إسرائيل- دون الحاجة لاعتبارهم مهاجرين جدداً.

المشاريع التعاونية في العالم الثالث

يمكن أيضاً إستغلال القدرة المتزايدة على التنقل لخدمة غرض التعاون اليهودي في مختلف المجتمعات في العالم. فالمتطوعون اليهود من إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا أو أي مكان آخر سيكون في مقدورهم العمل لبضعة أشهر في مناطق التجمعات اليهودية التي تحتاج للمساعدة في مجال التعليم أو التنظيم الشبابي أو في تحسين مناطق سكنهم أو أية أعمال أخرى. ففي الاتحاد السوفييتي السابق مثلا، حيث يبدي اليهود اهتماماً متنامياً بتراثهم، فإن هؤلاء المتطوعين يمكن لهم بناء الجماعات اليهودية وتشجيع الهجرة لإسرائيل في آن واحد، بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في ذلك. هناك مصاعب كبيرة في بعض التجمعات اليهودية كالأرجنتين مثلاً، حيث تعرض اليهود فيها خلال التسعينات لهجومين إرهابيين كبيرين، ولا شك في أن المتطوعين اليهود الشباب قادرون على مساعدة الجماعة اليهودية الأرجنتينية في مجال التعليم وغيره.

أما التحدي الآخر، والأكثر  طموحا، فهو محاولة إقامة إطار يهودي عالمي لمساعدة العالم الثالث. ففي القرن الحادي والعشرين، سيكون العديد من اليهود من إسرائيل والشتات مهيأين لمد يد العون لشعوب أخرى في مناطق أخرى من العالم. إن الانفجار السكاني في العالم الثالث، وكذلك الظروف القاسية الممثلة بالفقر والمرض، تجعل من هذا الجزء من العالم جرحاً مفتوحاً خلال هذا القرن. يمكن لإسرائيل أن تصبح واحدة من الدول المقدمة للمساعدات في العالم الثالث، شأنها في ذلك شأن الدول السكندنافية.

خلاصة:

إن وجود دولة إسرائيل هو شذوذ تاريخي ومفاجأة كبيرة، وذلك إذا أخذنا كل العقبات التي يتحتم علينا التغلب عليها. إن إسرائيل تمثل محاولة للتمتع بفوائد الغيتو بدون أن تدفع الثمن. إنها توفر الشعور الخاص بالإنتماء إلى غالبية قومية في منطقة مازالت القومية فيها تلعب دوراً هاماً. غير أن هناك العديد من اليهود اليوم، الذين يخشون من أن إسرائيل آخذة في الاتجاه نحو الصبغة اليمينية الدينية للغيتو. إن إسرائيل التي ليست في حالة سلام مع جيرانها، والتي لا تعترف دول العالم بعاصمتها، إنما تنحدر فعلاً إلى  نمط العزلة السياسية والدبلوماسية. إننا نقف الآن أمام خيارين أساسيين: إما أن نعصر أيادينا قلقاً على وضع العالم اليهودي مع بداية القرن الحادي والعشرين، أو ننطلق للعمل.

أولئك الذين سيختارون الخيار الاول إنما يجعلوننا نعتقد أن سلاماً حقيقياً لا يمكن أن يتحقق مع جيران إسرائيل المعادين لها، وانه لا يمكن وقف تيار الذوبان اليهودي والزواج المختلط في الشتات. إن هؤلاء المتشائمين يجادلون في أن محاولات إقامة نوع آخر من الحوار بين إسرائيل ويهود العالم مصيرها الفشل الحتمي.

 من جهة ثانية، فإن الخيار الثاني، أي الانطلاق للعمل، فهو يتطلب الدفع قدماً بعلمية السلام، والعمل من أجل  التعددية الدينية في إسرائيل، بما في ذلك وضع تعريف واسع لمن هو اليهودي. إن هذا الخيار من شأنه ان يفتح الافاق أمام الطرق الخلاقة الجديدة لتقريب العالم اليهودي إلى  بعضه انطلاقا من البحث عن مصادر القوة في كل تجمع على حدة.

هناك شيء واحد واضح من دراسة القرن الماضي من التاريخ اليهودي: إن اليهود الذين دفعوا أفدح الأثمان هم اليهود الذين لم يعملوا شيئا. أولئك الذين عملوا، عاشوا، سواء بالهجرة إلى  أمريكا أو إسرائيل، أو حتى تلك المستوطنة اليهودية السيبيرية الفاشلة في بيروبيجان. أولئك الذين ظلوا في مقاهي فيينا أو في الغيتوات اليهودية هم الذين اندثروا.

إن الدرس الذي يمكن استخلاصه هو أننا لا نستطيع السماح لأنفسنا بأن نحدق في إسرائيل والعالم اليهودي، معجبين بالنجاحات التي حققناها، متأوهين على الاتجاهات الإشكالية القادمة. ان انطلاقنا للعمل سيحدث التغيير. نحن لسنا بحاجة لأن نضع الخطط الهائلة كتلك التي وضعها هيرتزل لنقل شعب بأسره من قارة إلى  قارة أخرى. أن خطوات أكثر تواضعاً يمكن أن تضمن أن يصبح القرن الحادي والعشرون قرنا يمكن تذكره على أنه قرن رائع بالنسبة للشعب اليهودي.

إيسا لايبلر يرد على يوسي بيلين

 هذه المقالة هي رد على آراء بلين التي لدى وضعها في الميزان، فإنني  أرى أنها تشكل تهديداً للهوية اليهودية المتميزة لإسرائيل، وروابطها بيهود العالم. ولذلك، فإن تلك الآراء تستحق الدحض القوي.

إن رؤية الدكتور بيلين لمستقبل الحياة اليهودية في إسرائيل وفي الشتات، هي مرآة عاكسة للموقف اليهودي الأمريكي من التعددية والليبرالية. ولذلك، وبعد التقييم الأولي، فإنها تبدو جذابة للغالبية العظمى من يهود الشتات الذين استفادوا من هؤلاء المنظرين والذين أسهموا بالفعل في بلورتها .

وفي إسرائيل كذلك، فإن غالبية اليهود ومن ضمنهم المتدينون المعتدلون، قد يؤيدون مجتمعاً تعددياً تتعايش  فيه المدارس المختلفة لليهودية بسلام. لو كان ما يقدمه الدكتور بيلين هو هذا فقط، فجميعنا نكون على أتم وفاق. غير أنه لدى التمعن فيما يقوله الدكتور بيلين، فإن هذه الطروحات لو قدر لها أن تخرج إلى  حيز التنفيذ، لأدت إلى التخلي عن الصهيونية التاريخية واليهودية التقليدية. وما يقدمه مكانهما هو خليط من القيم العالمية التي إذا ما جردت من مضمونها اليهودي المتميز وترجمت إلى  المبادرات السياسية التي ينادي بها، لأدت إلى التفكك التام للشعب اليهودي.

فالرؤية البيلينية إنما تؤدي إلى تفاقم الانقسامات القائمة بين يهود إسرائيل ويهود الشتات، كما يؤدي إلى تسارع عملية الذوبان في المركزين الرئيسيين للحياة اليهودية (إسرائيل والولايات المتحدة)، وتحيل إسرائيل بالتالي إلى مجرد مجتمع كنعاني ناطق بالعبرية، إلى مجتمع مجرد من التراث اليهودي والروح المؤسسة للشعب.

ولعل ما يدعو إلى  الهزء هو أن أفكار بيلين المعروفة حول الدين والدولة، سوف لا تؤدي إلا إلى بقاء جيوب المتدينين، بل والمتدينين المتطرفين، الذين سيستمرون في البقاء وإنما بشكل معزول وهامشي داخل إسرائيل ما بعد الصهيونية، وكذلك في الشتات.

إن بيلين يرفض أن يوصف بأنه ما بعد صهيوني. غير أن إسرائيل التي يتصورها ستكون مختلفة اختلافاً دراماتيكياً من حيث الواقع ومن حيث رمزيتها، عن الدولة اليهودية التي أعلن الآباء المؤسسون قبل  خمسين عام عن إقامتها. فهي ستكون مختلفة إلى حد يبرر وصفها بأنها غير صهيونية إن لم تكن ما بعد صهيونية.

إن هذا ليس مجرد أمر يتعلق بالمصطلحات أو التفسيرات المتباينة. بل أنه أمر يغوص في عمق المأزق الوجودي المبرح في ألمه الذي تثيره الأسئلة العديدة التي تواجهنا، والتي تتمثل فيما إذا كانت إسرائيل، بكل عيوبها التي لابد أن يتم التصدي لها، ستبقى دولة ديمقراطية ويهودية بدون أي خجل من ذلك وهذه هي الرؤية المستقبلية التي مازالت الغالبية العظمى من اليهود في إسرائيل والشتات ملتزمة بها، أم أنها سوف تنحدر إلى  مجرد دولة لليهود بين الآخرين.

ومهما يحاولون تجميل الواقع، فلابد من الاعتراف بأن المزيد ثم المزيد من الإنتلجنسيا الإسرائيلية آخذون في تأييد الخيار الثاني.

قد لا يكون بيلين راغباً في الانتماء إلى  ذلك المعسكر. غير أن ما هو مهم هنا ليس رؤية بيلين لنفسه، وإنما الأفكار التي يعتنقها. وتلك الأفكار هي التي ستمد يد العون والراحة للتنقيحيين والاختزاليين الذين يريدون لإسرائيل أن تكون أقل يهودية. إن كل شيء له علاقة بالتاريخ اليهودي يخبرنا أن الشرط المسبق لأن تكون إسرائيل "الضوء الهادي للأمم" إنما يعتمد على كونها أولاً "الضوء الهادي للشعب اليهودي". ولا يمكن لإسرائيل أن تتحدث بواقعية عن أية رؤية أخلاقية دولية تتجاوز ما يعرف بالسياسية الخارجية الواقعية، ما لم تكن في حالة سلام داخلي وخارجي، واثقة من هويتها ومن استمراريتها القومية، آمنة في علاقاتها مع يهود الشتات من جهة ومع ماضيها وحاضرها من جهة أخرى.

إن ما يطرحه بيلين بشأن "فرق سلام" من إسرائيليين ويهود شتات، هو امتداد لبرنامج المساعدات الإسرائيلي المتميز المقدم للعالم الثالث، ولذلك فينبغي مناقشته في إطار السياسة الخارجية الإسرائيلية. وعندئذ، فإن ما سيتم مناقشته في هذا المجال، هي أمور تتعلق بالميزانية وبالأولويات الإقليمية. وعندئذ، يمكن تبرير مثل هذه المساعدات باعتبارها عملاً نبيلاً منبثقاً من التراث اليهودي "تيكون أولام" الذي يعني إصلاح العالم. غير أن بيلين وكذلك زملاءه من اليهود  الأمريكيين الليبراليين الذين فسروا "تيكون أولام" على أنه الكينونة والنهاية، إنما يضعون العربة أمام الحصان. فعلى الرغم مما يحتويه إصلاح العالم من نبل، فإن إصلاح العالم في ظل فراغ مجرد من اليهودية لن يؤدي إلى  تعزيز الهوية اليهودية ولا يمكن له أن يكون بديلا لها. فقط بتعزيز الهوية اليهودية يمكن منح مفهوم "إصلاح العالم" أي معنى.

قد يكون مفيداً توضيح القضايا: أن يهوديا متدينا قد يشير استنادا إلى  "التناخ" أو لأي من عشرات الوعود الإلهية من إبراهيم إلى آخر الأنبياء، أن اليهود سوف يستقرون في أرضي إسرائيل ويقيمون المجتمع العادل فيها، وأنه على الرغم من الخيبات والتمرد والخراب والنفي، فإن الرب يحفظ وعده ويعود اليهود إلى  ارضهم. أو قد يقتبس المرء من المصادر الحاخامية الممتدة منذ الاف السنين التي تؤكد على الرابطة السامية بين أرض إسرائيل وشعب إسرائيل، أو قد يقتبس من الاف النصوص الأدبية من قصائد يهودا هاليفي أو من صلوات الشوق إلى صهيون، أو من أدبيات أوائل الدعاة المتدينين في القرن التاسع عشر الذين مهدوا للصهيونية الحديثة.

غير أنه قد يكون أكثر سهولة أن يتم تحقيق إجماع على الفقرة الاستهلالية لبيان إعلان الاستقلال  الذي اعلنه بن غوريون، والتي جاء فيها: "لقد كانت أرض إسرائيل مهد ولادة الشعب اليهودي. هنا تشكلت هويتهم الروحية والدينية والسياسية. هنا أقاموا دولتهم أول مرة، وابتكروا قيمهم الثقافية ذات الأهمية القومية والعالمية وأعطوا للعالم كتاب الكتب..بعد أن تم تشريدهم من أرضهم بالقوة، احتفظ الشعب بإيمانه بها على مدى تشتتهم ولم يكفوا عن الصلاة والأمل بالعودة إليها واستعادة حريتهم السياسية فيها".

وبغض النظر عما تعنيه تلك الكلمات الاستهلالية للوثيقة التأسيسية لإسرائيل، فهي إنما تؤكد على ثلاثة مفاهيم أساسية ومركزية بالنسبة لفكرة الدولة اليهودية. الأولى هي الوحدانية الاستثنائية لأرض إسرائيل بصفتها مهد الولادة القومية ومنبع الإبداعية الثقافية والأخلاقية للشعب اليهودي، وبالتالي العلاقة غير القابلة للنقض بينها وبين هوية الشعب اليهودي عبر التاريخ.

الثانية هي أن اليهود صلوا وتأملوا في العودة إلى  أرض إسرائيل على مدى القرون كما أن العديد من الصهيونيين العلمانيين رأوا في العودة إلى  وطن قومي شيئا يتجاوز الخلاص السريع أو الهروب من اللا سامية. لقد رأوا فيها فعلاً ايجابياً هو الاسترداد. أما الثالثة، فهي أن هناك علاقة مباشرة وعضوية بين أرض إسرائيل وكيان سياسي قومي يهودي مستقل وحر.

إن أفكار بيلين لا توحي بأي حال لدى قراءتها أن هناك أية ضرورة لتلك المفاهيم الأساسية الثلاث: فقد كان من الأفضل للآباء الصهاينة لو أنهم اختاروا أوغندة بدلا من فلسطين، وإن نشوء الصهيونية والسعي إلى إقامة دولة إسرائيل قد نبعا بدرجة رئيسة من اللا سامية، ونجاح الصهيونية في إقامة الدولة اليهودية هو ليس ذلك النجاح السياسي الفريد الذي نعتقده أو يعتقده العالم، بما في ذلك أعداء إسرائيل، وذلك لأن اليهود  الأمريكيين، كما يقول، قد حققوا الحلم الصهيوني بطريقتهم الخاصة. وعلينا  الآن أن نعتمد على ما جاء في بيان إعلان استقلال إسرائيل ومفهومه لأرض إسرائيل، أو أن نتقبل أفكار يوسي بيلين، ولا يمكن لكليهما أن يكونا صحيحين.

في ظل غياب اللا سامية الان، ما هي العناصر الكامنة وراء الإطار الديني التي من شأنها توفير الهوية اليهودية؟ قد نكتشف يا للأسف بأنها قليلة جداً: مجرد إحساس متآكل بالتاريخ والثقافة، ذاكرة تزداد تلاشياً ازاء "الشوح" –Shoah- ثم إسرائيل بالطبع.

فعلى الرغم من الضعف والانقسامات التي فيها، فإن الدولة اليهودية تظل التجسيد الرئيسي للاستمرارية والإبداع اليهودي. فإسرائيل هي الشيء الوحيد القادر على تلبية المتطلبات الوجودية "لشعب" يهودي وقومية يهودية، للتاريخ والجغرافيا، للفرد والجماعة. وبغض النظر عن مشاكل التصدي للدين وانبثاق ما بعد الصهيونية، فإن إسرائيل تظل المجتمع الذي يدور حوله إيقاع الحياة اليهودية واللغة العبرية. فالحقيقة هي أن المعنى اليهودي للحياة إنما يخلو من الديناميكية والإبداع بالنسبة لنحو 80 إلى  90 بالمئة من يهود الشتات، كما أن نظرتهم لليهودية لا تتجلى إلا في الركض وراء الذوبان وفي الاندفاع غير المسبوق للزواج المختلط. ولا ينحصر هذا في يهود الولايات المتحدة. فالفترة التاريخية قد تتباين، غير أن التوجه يكاد يكون هو نفسه في كل مكان، إذ يمكن القول بأن الحياة اليهودية آخذة بالتلاشي الفعلي في جميع تجمعات الشتات.

لا يمكن إنكار حقيقة أن هناك قطاعات من يهود أمريكا ويهود مناطق أخرى تمر بعملية إحياء يهودي. فيهود أمريكا أغنياء ومؤثرون سياسياً وعدد ساعات الدروس اليهودية في الجامعات قد ازدادت كثيراً كما أن اليهودية المتزمتة قد أصبحت قوة مؤثرة، بل أن يهود أمريكا يتفاخرون بأن لديهم  الآن عدداً من المدارس اليهودية ويخرجون حاخامين ويأكلون الكوشر وينشرون كتباً يهودية أكثر  من أي وقت مضى في التاريخ اليهودي. بل أن هناك إحياء للطقوس الدينية التقليدية حتى بين صفوف الملل غير المتزمتة دينياً.

على الرغم من كل ذلك، فالحقيقة هي أن كل هذا الانبعاث هو انبعاث وهمي. فهو بدرجة رئيسة لا يطال الا أولئك اليهود المنخرطين في تلك الفعاليات، وهم المتزمتون والأكاديميون إلى  جانب بعض التجمعات النخبوية. فمن الناحية الديمغرافية، وفي ضوء ارتفاع نسبة الزيادة الطبيعية في صفوف القطاعات الدينية المتزمتة، والتي يقابلها تراجع النمو الطبيعي في صفوف غير المتزمتين، فإن  المستقبل يحمل تنامي عدد اليهود المتزمتين وتحولهم إلى  تشكيل غالبية التجمعات اليهودية. غير أن اليهود المتزمتين يشكلون أقلية بالنسبة لمجموع يهود العالم، وإذا ما أصبحت الغلبة في المستقبل لهؤلاء المتزمتين، فهذا يعني أن نحو 90% من العائلات اليهودية الحالية سوف لا يكون لها سلالات يهودية.

فبالمقارنة مع الجيل السابق، فإن معظم اليهود المتدينين قد أخذوا يميلون فلسفياً وعاطفياً إلى عدم معارضة الزواج المختلط بالنسبة لأبنائهم وبناتهم. فالمسوح  الأمريكية توضح أن الوضع هو أشد حدة في جيل الشباب حيث أعلن نحو 20% فقط أنهم يعارضون الزواج المختلط و 6% فقط أنهم يعارضونه بشدة.

وما يثير قلقاً أشد هو المسح الذي يتضح منه أن نحو 95% من أبناء وبنات الزيجات المختلطة لا يظلون يهوداً.

أما في إسرائيل فبغض النظر عن التوترات والتناقضات القائمة هنا، فإن  رموز الدولة والأمة لم تزل يهودية، وكذلك الثقافة العامة. كما أن الجميع بما في ذلك اليهود غير الملتزمين بالطقوس الدينية، يلتزمون بيوم السبت وبالتقويم اليهودي والأعياد اليهودية. وبمعنى ما، فإن يوسي بيلين يدعم هذا التقييم، ويعتمد هو وإسرائيليون آخرون بدرجة كبيرة على ان إسرائيل تظل يهودية بفضل نظرية "التناضح" _ Osmosis­__. غير أنه يناقض نفسه فلسفياً وعملياً.

فمن الناحية الفلسفية، فهو ينظر إلى  أرض إسرائيل على أنها مجرد قطعة أرض أخرى مملوكة ملكا عاما، قابلة للتبادل تاريخياً مع أوغندة. فإذا لم تكن إسرائيل كدولة وأرض ذات قيمة يهودية خاصة ومتميزة، الأمر الذي يضفي على اليهود والأرض صفة التميز النوعي عن أية بقعة أو شعب آخر، فما الذي يدعو إلى  الذهاب بعيداً في دعم إسرائيل في صفوف شباب الشتات؟ ولماذا نجشِّم النفس عناء جلب هؤلاء الشباب للتعرف على مواقع المسادا والجليل والنقب وغيرهم، إذا كانت هذه الامكنة لا تعدو أن تكون مجرد مكان كأي مكان؟

واذا كان بيلين يقول بأن أمريكا تشكل تحقيقاً للحلم الصهيوني في الحصول على المساواة والاحتفاظ في الآن ذاته بالهوية اليهودية، فلماذا لا نطبق، برنامج "حق الميلاد" في أية ولاية من الولايات المتحدة  الأمريكية بحيث نضمن انخراط كل الشباب اليهود في هذا البرنامج من خلال تنفيذه في الينوي أو نيوجرسي وكاليفورنيا على شكل معسكرات شباب؟

توجد نفس اللا أبالية في أفكار بيلين حول الشعب اليهودي باعتباره "منتدى" يتطلب تسهيل شروط الانتماء إليه. ففي محاولة لتعويض الخسائر العددية الناجمة عن الزواج المختلط في الشتات، يقترح بيلين حلاً طريفاً. أنه يقترح بأن يكف الشعب اليهودي عن النظر إلى نفسه كديانة أو كقومية، وأن ينظر إلى  نفسه باعتباره شركة من الناس يمكن لمن هم ليسوا من المنتدى أن ينضموا اليه من خلال إجراءات تهويد علمانية.

إن مفهوم التهويد العلماني في القرن الحادي والعشرين، حين يكون فيه كل جانب من جوانب المجتمع المفتوح متوفراً لليهود، هو مفهوم عبثي. ذلك أن ضم متهودين علمانيين جدد من شأنه أن يخلق الفوضى في صفوف الشعب اليهودي، المنقسم حاليا ويا للأسف إلى  جماعات على نحو قد لا يكون ممكنا للأبناء أن يتزوجوا من بعضهم البعض. كذلك فإن الزواج العلماني سيكون غير ضروري لأن الإسرائيليين الذين لا يعتبرون يهوداً من الناحية الهلاخية" ( التهويد بالطقس الديني) لا يحتاجون إلى عباءة يلفون فيها تعلقهم بإسرائيل.

مع ذلك، لم يزل ممكنا وفقا لشروط بيلين، القول بأن فكرة "المنتدى" اليهودي قد تجعل الانتماء أكثر جاذبية لعدد كبير من اليهود الشباب المثقفين ومن ذوي العقلية الليبرالية، الذين يتجهون حالياً إلى الارتباطات اليهودية التي يرون أن طقوسها متشددة ومقيدة جداً، ولذلك فهم يتزوجون بعيداً عن تلك الطقوس. في الآن ذاته، قد يكون من الصعوبة بمكان تفهم السبب الذي سيدعو شاباً يهودياً غربياً يتمتع حالياً بحق الاختيار بين هويات ذاتية متعددة، إلى تكليف نفسه عناء اختيار الانتماء إلى  شعب يستمد عضويته بطريقة سهلة كعملية الانتماء إلى أي منتدى.

فلنتناسى ما تحمله فكرة المنتدى اليهودي من تخفيض لقيمة الانتماء اليهودي، ولننظر في ذلك التنافر المعرفي الذي ستوجده هذه العملية بالنسبة لليهود ولغير اليهود على حد سواء. يوافق بيلين على أنه بغض النظر عما إذا كان المرء متدينا أم علمانيا، فإن احتمال أن يكون هناك أحفاد يهود للجيل الحالي في إسرائيل هو احتمال أقوى من احتمال ذلك في الشتات. غير أن القراءة المتأنية لأفكاره في هذا المجال، توضح التناقض القائم في اعتقاده هذا مع قوله بأن مكان إقامة اليهودي، سواءً كان ذلك في إسرائيل أو أمريكا أو أوروبا، ليس له علاقة مباشرة بهويته اليهودية.

بل أنه يقترح ضرورة الغاء التمييز المصطنع بين الصهيونية واللا صهيونية، كما يقول بضرورة فتح المركزين الرئيسيين لليهودية العالمية_إسرائيل ونيويورك_مكانة متساوية.  هكذا تصبح مركزية إسرائيل بصفتها مركزاً لليهودية العالمية شيئا أبلاه الزمن. بل إن بيلين يذهب إلى أبعد من ذلك ويجادل بشدة في أن الإقامة في إسرائيل بالنسبة لليهود هي أشد خطورة على اليهود من الإقامة في الشتات. إن الخطر الحالي بالنسبة لليهود في إسرائيل هو خطر مبالغ فيه كنتيجة للعمليات الإرهابية، فهو أقل مما يمكن أن يحدث في نيويورك لأي سبب بما في ذلك حوادث الطرق.

غير أن بيلين يرى كذلك بأن "الصعود إلى إسرائيل" ليس حلاً عملياً بالنسبة للجماهير اليهودية. ولذلك فهو يوحي بالتخلي عن فكرة الصعود البالية. وهنا يكمن خطأه الآخر. فعلى الرغم من العدد الضئيل لليهود القادمين إلى إسرائيل من البلدان الغربية، فإن هؤلاء القادمين هم الذين يمدون الجسور بين إسرائيل والشتات. فمركزية إسرائيل بالنسبة لنا هي مركزية عظيمة الأهمية من حيث حفاظها على استمرارية الحياة اليهودية المعاصرة.

والآن، هل يمكن حل أزمة الحياة اليهودية في إسرائيل وفي الشتات من خلال إعادة التركيب التنظيمي؟ فإذا ما اختفت كل المنظمات اليهودية القائمة وحلت محلها بدائل اكثر كفاءة ومهنية فان الحياة اليهودية لن تتأثر تأثراً ملحوظاً، وحتى لو تم خلق منبر إسرائيلي شتاتي حقيقي وتمثيلي إلى حد كبير، فإنه سيظل شيئاً وهمياً حتى لو أطلقنا عليه اسم "بيت إسرائيل" على النحو الذي يقترحه بيلين.

فالواقع هو أن أية مظلة يهودية جديدة لن يكون لها التأثير الدراماتيكي المقصور على مستقبل حياة الشعب اليهودي. فالمشكلة القائمة وعلى المدى المنظور، ليست مشكلة تنظيمية وإنما تعليمية وثقافية.

إن الحاجة الآن للتعليم اليهودي باعتبار أنه الية البقاء، قد أصبحت هماً عالمياً متفقا عليه من قبل كل من ينضم إلى المناقشات حول مستقبل الشعب اليهودي. غير أنه ما زال هناك اختلاف واسع حول مضمون هذا التعليم اليهودي الحقيقي، سواء في إسرائيل أو في الشتات. ولدى الأخذ في الاعتبار كل الخلافات الأيديولوجية والدينية والمالية والتي لا نتوقع اختفاءها، فإن هذا الحديث الصريح إنما يتطلب منا على أقل تقدير، أن نتفق على أن التعليم اليهودي هو حديث بالغ الجدية ويستغرق وقتاً طويلاً ولا يمكن أن يترك للمناقشة لبضع ساعات في صباحات كل يوم أحد من الأسابيع. أن دراسة جوهر النصوص الخاصة باليهودية، وكذلك اللغة العبرية والتاريخ اليهودي والتمعن في مجمل الحضارة اليهودية، يتطلب توفير المدرسين الملتزمين والمناهج المكرسة لمهمة تعليم جاد ذي معنى.

إننا نقف اليوم في مفترق طرق خطير. إن المخاطر الخارجية قد تراجعت. وعلى الرغم من كل المشاكل التي لديها، فإن إسرائيل هي اليوم أقوى من أي وقت مضى، وذلك بغض النظر عن أية انتكاسات مؤقتة، حيث أن عملية السلام الإسرائيلية –العربية غير قابلة للنقض.

إن الخطر الحقيقي ينبع من الداخل، وأن الاحتمالات الكارثية من الداخل يجب أن لا يتم التقليل من شأنها. إن تجاهل هذه الخلافات والضرب بقوة على قلب هذا المشروع اليهودي الذي هو إسرائيل، لا يعني سوى تغلغل ما بعد الصهيونية. كثيراً ما لا يظهر هذا واضحاً، ومثل مرض السرطان الرديء في أوائل مراحله، فإنه ينخر في الجسد دون أن يظهر بأنه يتقدم. أن معظم الإسرائيليين_بمن فيهم غالبية أعضاء الكنيست غير مدركين لتلك التغييرات التي تحدث في الاطار التعليمي والتي حدثت على يد دعاة ما بعد الصهيونية. فهم منهمكون في مشاكل الحياة اليومية الإسرائيلية، ويميلون إلى  نفي ذلك باعتباره اختلافا أكاديميا لا قيمة له.

ليس كل شيء مظلما وحتمياً. هناك اتجاهات مشجعة توحي بأن ردة فعل جدية آخذة بالتبلور ضد ما بعد الصهيونية. غير أنه لا بد لكل ملتزم ببقاء إسرائيل كدولة يهودية من التحرك للعمل فوراً. فقبل أن تتمكن حركة ما بعد الصهيونية من دخول مدارسنا، وقبل أن تصبح الثقافة السائدة في وضع غير قابل للتغيير، لا بد من توعية الإسرائيليين ويهود الشتات إزاء الخطر المشترك.

 ترجمة: س. ح.


الصفحة الرئيسية | مجلة المركز | نشرة الأحداث الفلسطينية | إصدارات أخرى | الاتصال بنا


إذا كان لديك استفسار أو سؤال اتصل بـ [البريد الإلكتروني الخاص بمركز التخطيط الفلسطيني].
التحديث الأخير:
16/01/2006 12:16 م