التباس مفهوم وواقع التعددية في النظام السياسي الفلسطيني(*)

العلاقة الملتبسة بين المنظمة والسلطة وحركة حماس

 

أ.د. إبراهيم إبراش(**)

يشهد الحقل السياسي الفلسطيني هذه الأيام جدلا وحواراً سياسياً غير معهود يمس قضايا إستراتيجية تتعلق ببنية النظام السياسي الفلسطيني وآليات اشتغاله ومستقبله، وشكل الحكومة ومرجعيتها…الخ، وهي قضايا مقحمة على شعب يعيش تحت الاحتلال. والملاحظ أن هذه القضايا تتمحور حول طبيعة العلاقات ما بين مؤسسات رئيسية ثلاث: الأولى هي منظمة التحرير الفلسطينية، والتي وطوال أكثر من أربعة عقود وهي تمثل الشعب الفلسطيني وتعتبر الإطار الموحد للقوى السياسية الفلسطينية وبمثابة النظام السياسي الفلسطيني، والثانية السلطة باعتبارها نظاماً فرعياً للمنظمة أسست بقرار منها ليجيب ويتعامل مع استحقاقات سياسية مرتبطة بالتسوية السياسية التي ألزمت المنظمة نفسها به، والطرف الثالث هي حركة حماس التي أصبحت الحكومة ومسيرة السلطة من باب الانتخاب دون أن تكون جزءا من منظمة التحرير الفلسطينية.

هذه المكونات الثلاثة تعيش اليوم حالة من الجدل المحتدم لتحديد العلاقات بينهما بما لا يخل بوحدة وشمولية النظام السياسي، وهو جدل وإن كان متواجداً قبل إجراء الانتخابات التشريعية الأخيرة، إلا أنه احتدم بعد إجراء هذه الانتخابات وفوز حركة حماس بالأغلبية. ولأنه جدل وصل لدرجة تأزم النظام السياسي ووضع المواطن الفلسطيني في حالة ترقب وقلق على مستقبله، فإن الأمر يحتاج لمعالجة متأنية لسيرورة العلاقة بين هذه المكونات الثلاثة حتى نتلمس سبل الخروج من المأزق بما يخدم المصلحة الوطنية العليا، وخصوصاً أننا كنا نأمل أن تؤدي الانتخابات لإخراج النظام السياسي بدلا من تعميق هذه الأزمة.

فمنذ أن أصبحت الانتخابات استحقاقاً منصوصاً عليه باتفاق أوسلو وبخطة خارطة الطريق، انتابنا توجه من حقيقة هذا الإطار الأمريكي والأوروبي مع عدم الممانعة الإسرائيلية، فهل الأمريكيون حريصون بالفعل على أن يصبح مجتمعنا ديمقراطياً ونمارس حقنا بحرية التعبير والرأي وتجسيد مبادئ إرادة الأمة والسيادة وحق الشعب بتقرير مصيره؟ وهل الإسرائيليون الذين يحتلون الوطن ويستولون على الأرض ويقتلون البشر حريصون على الشعب الفلسطيني وحريته؟. هذا الإصرار الخارجي على الانتخابات دفعنا للكتابة والحديث أكثر من مرة عن وجود مراهنتين على الانتخابات، مراهنة وطنية فلسطينية تريد أن توظف الانتخابات كآلية لإخراج النظام السياسي من مأزقه وذلك بالتوصل لتشكيل حكومة ائتلافية عبر الانتخابات، حيث فشلت عشرات جولات الحوارات من التوصل لقيادة أو حكومة وحدة وطنية، وبالمقابل وجود مراهنة خارجية، أمريكية وإسرائيلية خصوصا لجعل الانتخابات مصيدة للفلسطينيين تبعدهم عن مقارعة الاحتلال ليتصارعوا ويتنافسوا حول المناصب والمواقع في سلطة هي سلطة حكم ذاتي هزيلة وتعيش على المساعدات والهبات الخارجية، وكنا نراهن على قدرة الفلسطينيين على كسب الرهان الوطني.

وحتى نكسب هذا التحدي الديمقراطي طالبنا بضرورة مباشرة حوار وطني يسبق الانتخابات التشريعية، هدفه التقريب بين البرامج والمواقف والتوصل لمرجعيات وثوابت وطنية ويكون الاختلاف داخلها وليس عليها، من منطلق أن الانتخابات كآلية لتداول السلطة لن يكتب لها النجاح إن كانت تنافساً بين استراتيجيات متناقضة، لأن ذلك سيصعب من إمكانية تشكيل حكومة ائتلافية بل قد يؤدي لأن يثار الفائزون من المنهزمين وعدم اعتراف المنهزمون بالهزيمة وبالتالي الارتداد على العملية الديمقراطية برمتها، وللأسف جرت الانتخابات دون الاتفاق على ثوابت ومرجعيات وطنية، وجرى ما نشاهده اليوم، المنهزم بالانتخابات مأزوم بهزيمته والمنتصر مأزوم بنصره.

أولاً: خصوصية التعددية الحزبية في النظام السياسي الفلسطيني

عن سبق فهم وإدراك أم نتيجة جهل، نلاحظ أن الخطاب السياسي الفلسطيني يعج بمفاهيم ومصطلحات كالدولة والسلطة والمعارضة والمجلس التشريعي والسلطة التنفيذية والتعددية الحزبية والانتخابات والمجتمع المدني…الخ، كوصف لمؤسسات قائمة وتشبيهاً بما هو عليه الحال في المجتمعات الأخرى المستقرة. لا شك أننا نأمل أن يكون واقع حال هذه المؤسسات عندنا شبيه بحالها بالدولة الديمقراطية المستقرة، إلا أن وجود الاحتلال يُخرج هذه المؤسسات عن طبيعتها ويضعها في سياق مختلف مما يحتم على كل باحث بالشأن السياسي الفلسطيني أخذ هذه الخصوصية بعين الاعتبار.

1- خصوصية النظام السياسي في الحالة الفلسطينية

 أ- تعريف النظام السياسي

التعريف التقليدي للنظام السياسي هو نظام الحكم بمعنى المؤسسات الحكومية الثلاث: تنفيذية وتشريعية وقضائية، والتي تقوم بمهمة الدفاع عن الوطن ضد التهديدات الخارجية وضمان الترابط الداخلي، هذا التعريف للنظام يربط النظام السياسي بالدولة، وهو تعريف مستمد أساساً من التعريف التقليدي لعلم السياسة بأنه علم الدولة، إلا أن التطور الذي عرفه علم السياسة مع تطور وتعقد الحياة السياسية وتجاوزها لحدود الدولة، دفع بعلماء السياسية إلى تعريف علم السياسة كعلم السلطة، وعليه، أصبح النظام السياسي يعرف كمفهوم تحليلي أكثر مما هو نظام مؤسساتي مضبوط كما توحي كلمة نظام، وضمن هذه الرؤية عرفت موسوعة العلوم السياسية، النظام السياسي بأنه "مجموع التفاعلات والأدوار المتداخلة والمتشابكة التي تتعلق بالتخصيص السلطوي للقيم، أي بتوزيع الأشياء ذات القيمة بموجب قرارات سياسية ملزمة للجميع (ديفيد استون)، أو التي تتضمن الاستخدام الفعلي أو التهديد باستخدام الإرغام المادي المشروع في سبيل تحقيق تكامل وتكيف المجتمع على الصعيدين الداخلي والخارجي (جابرييل الموند)، أو التي تدور حول القوة والسلطة والحكم (روبرت دول)، أو التي تتعلق بتحديد المشكلات وصنع وتنفيذ القرارات السياسية[1].

وهذا يعني أن النظام السياسي قد يشمل الدولة ولكنه قد يتجاوزها ليستوعب علاقات وتفاعلات سلطوية إما مشمولة بالدولة كالأحزاب والجماعات العرقية والطائفية ذات الثقافات المغايرة والمضادة للدولة، وإما تتعدى حدود الدولي كظاهرة الإرهاب الدولة أو العنف متعدد القوميات أو حركات التحرر الوطني أو التداعيات السياسية للعولمة.

وفي جميع الحالات، فإن مؤشرات وجود الظاهرة أو التركيبة السياسية التي يمكن تسميتها بالنظام السياسي هي التالي:

1-     قيادة سياسية ذات سلطة إكراهية- بدرجة ما.

2-     مؤسسات سياسية شرعية.

3-     هدف محلي توافق وطني.

4-     إستراتيجية عمل وطنية-ثوابت قومية.

ب- منظمة التحرير الفلسطيني كنظام شمولي لكل الشعب الفلسطيني

منذ قيام منظمة التحرير عام 1964، تم التعامل معها كتجسيد للكيانية السياسية الفلسطينية، من حيث وجود قيادة ومؤسسات: رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، واللجنة التنفيذية والمجلس المركزي والمجلس الوطني الفلسطيني، والقضاء الثوري ومؤسسات أخرى أهمها القوات المسلحة، كما حدد الميثاق الوطني، الإستراتيجية والهدف، فكانت بداية إستراتيجية الكفاح المسلح ثم بالتدريج ومن خلال صياغات تحويرية ومبطنة تم الانتقال من الكفاح المسلح إلى العمل السياسي، هذا التحول بالإستراتيجية رافقة أو بالأدق كان نتيجة استعداد لتحوير الأهداف، من تحرير كل فلسطين إلى القبول بدولة على أساس الشرعية الدولية[2]. كان النظام السياسي آنذاك هو نظام حركة تحرر وطني تناضل من خارج أراض الوطن، وهو ما جعل المحددات الخارجية تلعب دوراً خطيراً في قيام النظام السياسي-منظمة التحرير-بدايةً[3]، ثم التأثير والتدخل الفج في رسم سياساته وحركاته السياسية لاحقاً، ولم يغير قرار قمة الرباط 1974، بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً ولا إعلان القيادة الفلسطينية لشعار استقلالية العمل الفلسطيني، من الأمر كثيراً ولكن مع تغير طبيعة القوى المتدخلة.

في تلك المرحلة كانت المنظمة بمثابة البيت لكل الفلسطينيين، والنظام الذي يستوعب كل الفصائل والأحزاب والجمعيات، بغض النظر عن إيديولوجيتها وسياستها مادامت تلتزم بالإستراتيجية الوطنية وهي إستراتيجية المقاومة، وهذا ما نصت عليه المادة 8 من الميثاق الوطني، حيث جاء فيها (المرحلة التي يعيشها الشعب الفلسطيني هي مرحلة الكفاح الوطني لتحرير فلسطين ولذلك فإن التناقضات بين القوى الوطنية هي من نوع التناقضات الثانوية التي يجب أن تتوقف لصالح التناقض الأساسي فيما بين الصهيونية والاستعمار من جهة وبين الشعب العربي الفلسطيني من جهة ثانية، وعلى هذا الأساس فإن الجماهير الفلسطينية سواء من كان منها في ارض الوطن أو في المهاجر تشكل منظمات وأفرادا جبهة وطنية واحدة تعمل على استرداد فلسطين وتحريرها بالكفاح المسلح).

ومن هذه الصفة التمثيلية لم تغلق المنظمة أبوابها أمام أي فلسطيني أو فصيل فلسطيني يسعى للنضال من اجل التحرير، بل ذهب ميثاق المنظمة أبعد من ذلك معتبراً بأن أي فلسطيني هو تلقائياً عضو في المنظمة، وهو أمر قد يبدو متناقضاً مع مبدأ حرية الانتماء ولكن يمكن تفهم هذا الأمر إذا عرفنا بأن المنظمة لم تضع شروطاً للانتماء لها، فنصت المادة 4 من الميثاق على (الفلسطينيون جميعاً أعضاء طبيعيون في منظمة التحرير يؤدون واجبهم في تحرير وطنهم قدر طاقتهم وكفاءاتهم والشعب الفلسطيني هو القاعدة الكبرى لهذه المنظمة).

وبهذه الصفة التمثيلية الشمولية، ليس للأحزاب بل للشعب كله، أصبح المجلس الوطني الفلسطيني، وكما جاء في النظام الأساسي للمنظمة (هو الهيئة التمثيلية التشريعية العليا للشعب الفلسطيني بأسره داخل فلسطين وخارجها والذي يعتبر حسب نص ا لمادة 7-أ من النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية هو السلطة العليا لمنظمة التحرير، وهو الذي يضع سياسة المنظمة ومخططاتها…ويختص بكافة المسائل الدستورية العامة المتعلقة بالقضايا المصيرية للشعب الفلسطيني وكل ما يتعلق بمصالحه الحيوية العليا).

وبهذه الصفة التمثيلية تمكنت المنظمة من الحصول على اعتراف عربي ودولي بها عام 1974 فأصبحت عضواً في جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من المنظمات الإقليمية، وعضوا مراقباً في هيئة الأمم المتحدة لها أكثر من مائة سفارة ومكتب تمثيل في العالم، بل أنه على اثر الصدامات الدموية بين أهلنا في فلسطين وقوات الاحتلال في يوم الأرض 30 مارس 1976، صدر بيان عن فلسطينيي الخط الأخضر، يعلنون فيه أن المنظمة تمثلهم أيضاً. وجاء إعلان الاستقلال في جلسة المجلس الوطني في الجزائر في نوفمبر 1988 ليؤكد على الصفة التمثيلية للمنظمة، حيث ورد (وصاغت الإدارة الوطنية إطارها السياسي، منظمة التحرير الفلسطينية، ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، باعتراف المجتمع الدولي، متمثلاً بهيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها والمنظمات الإقليمية والدولية الأخرى، وعلى قاعدة الإيمان بالحقوق الثابتة، وعلى قاعدة الإجماع القومي العربي، وفي الوعي العالمي، بصفتها واحدة من أبرز حركات التحرر الوطني في هذا العصر).

بقيت منظمة التحرير رائدة النضال الوطني وممثلة الشعب الفلسطيني حتى ظهور حماس كقوة شعبية جهادية أثبتت وجودها خلال الانتفاضة الاولى 1987، ومع أنه يمكن ارجاع الوجود السياسي الفاعل لحماس إلى سنة 1979 حيث قررت إسرائيل السماح بترخيص (المجمع الإسلامي) الذي كان الواجهة التي تشتغل من خلفها الحركة، إلا أنه تأكد حضورها كمنافس قوي وربما بديل عندما نشرت ميثاقها في أغسطس 1988، والذي تشابه كثيراً مع ميثاق منظمة التحرير مع إضفاء مسحة دينية عليه.

ج- حماس والمنظمة: بين الاعتراف المشروط والبديل المنتظر

لم يتبلور موقف واضح لحماس من المنظمة، حيث تفاوتت المواقف ما بين القبول المشروط بالمنظمة والرفض وبينهما مواقف غامضة كانت تحدد حسب العلاقات بين الطرفين. فميثاق حماس أشار للمنظمة بصورة غامضة عندما قال (بأن المنظمة من أقرب المقربين إلى حركة المقاومة الإسلامية ففيها الأب والأخ أو القريب أو الصديق وهل يجفو المسلم عن اباه أو اخاه أو قريبه أو صديقه؟ فوطننا واحد ومصابنا واحد ومصيرنا واحد وعدونا مشترك)، ولكن هذا القول المطمئن يتلاشى عندما يرفض الميثاق الطابع العلماني للمنظمة بالقول أننا لا نستطيع أن نستبدل ميثاقاً إسلامية فلسطين الحالية والمستقبلية لنتبنى الفكرة العلمانية…ويوم تتبنى المنظمة الإسلام  كمنهج حياة فنحن جنودها ووقود نارها التي تحرق الأعداء. وهكذا نلاحظ غياب الموقف الصريح من تمثيلية المنظمة للشعب الفلسطيني.

وبعد عام تقريباً على صدور ميثاق حماس، وفي مقابلة صحفية مع مجلة فلسطين المسلمة وردا على سؤال حول اعتراف حماس بالمنظمة كممثلة للشعب الفلسطيني، كان الرد بالتمييز ما بين المنظمة كإطار وطني والمنظمة كتوجه سياسي وبنية قائمة، فالمنظمة كإطار وطني كما ورد في الميثاق من حيث الأهداف والتشكيل مقبولة من حماس، أما المنظمة كتوجه سياسي حالي يعترف بإسرائيل وبقرارات الشرعية الدولية فهي مرفوضة.

في مقابلة مع الشيخ احمد ياسين في السجن قال بأن المنظمة تمثل فلسطينيي1948 الخارج فقط ولا تمثل فلسطينيي1948 في الداخل، وفي نفس المقابلة قال (أريد دولة ديمقراطية متعددة الأحزاب، السلطة فيها لمن يفوز في الانتخابات)[4]. ولكن في 1990 تحدثت حماس بنغمة تصالحية وذلك على لسان محمود الزهار الذي قال بأن المنظمة تمثلنا جميعا، وقامت حماس بتعيين ممثل غير رسمي لها في المجلس المركزي للمنظمة، ولكن عندما فكرت المنظمة بعقد اجتماع للمجلس الوطني في ربيع نفس السنة طالبت حماس بـ40% من المقاعد واشترطت إلغاء البرنامج السياسي-بيان إعلان الاستقلال لعام 1988، وردت فتح بقوة ففي مقال في مجلة فلسطين الثورة لشهر يوليو جاء أن المنظمة ليست حزباً من أحزاب الدولة وإنما هي الدولة.

في مذكرة وجهتها حماس للمجلس الوطني في نيسان 1990 حددت حركة حماس الشروط التي على أساسها يمكن الدخول في المجلس الوطني وهي عشرة شروط، أهمها، اعتبار فلسطين وحدة واحدة من البحر إلى النهر، والتأكيد على الكفاح المسلح وشروط أخرى منصوص عليها في الميثاق الوطني، وهذا موقف وسطي يستشف منه أنها ليست ضد المنظمة من حيث المبدأ ولكنها ضد الخروج عن ميثاق المنظمة، وأضافت شرطاً هو أن تُمثل بالمجلس بنسبة تتراوح بين 40 و50%.

عندما تم إبعاد 400 شخصية في ديسمبر 1992، توترت العلاقة بين الطرفين مجدداً، وتوسطت السودان بين الطرفين، وجرت مفاوضات في الخرطوم وطالبت حماس بنسبة 45% من مقاعد المجلس مما أدى إلى انهيار الحوار. وحمّل أبو عمار المسؤولية لممثلي حماس بعمان مشيراً إلى وجود تباين في المواقف بين جناح الداخل وجناح الخارج في الحركة، مما دفع بمحمد نزال أحد قادة حماس في الخارج للمطالبة باستقالة قيادة المنظمة، إلا أنه في يونيو تراجعت حماس عن موقفها المتشدد وأعلنت على لسان إبراهيم غوشة بأن المنظمة هي الإطار السياسي لجميع أبناء الشعب.

مع مدريد تعمقت الخلافات بين الطرفين، وانتقدت الحركة قرارات المجلس الوطني في الجزائر في أيلول 1991، وهي الدورة التي أقرت المشاركة في مؤتمر مدريد، معتبرة أن المجلس الوطني الفلسطيني بتشكيلته الحالية غير مؤهل لاتخاذ قرارات مصيرية، بل وصل الأمر للتحفظ على شرعية تمثيل المنظمة وهو ما ظهر خلال لقاء حماس وفتح في الخرطوم في يناير 1993 كما ذكرنا.

ثانياً: السلطة بين المرجعية المؤسسة (م.ت.ف) والمرجعية الانتخابية (حركة حماس)

1- سلطة وطنية على أنقاض المنظمة أم لتطبيق برنامج المنظمة؟

أوجد اتفاق أوسلو الذي وقعته منظمة التحرير مع إسرائيل عام 1993، انشقاقاً كبيراً بين الفلسطينيين وخلخل مرتكزات النظام السياسي الذي أسست له منظمة التحرير طوال ثلاثة عقود، ويبدو أن الثوابت التي حافظ عليها النظام السياسي الفلسطيني هي اقل بكثير من المتغيرات التي طرأت عليه. فبعد قيام سلطة الحكم الذاتي دخلت المنظمة بكل فصائلها قفص التسوية-مناطق السلطة في الضفة وغزة-مع تباين نسبي في الموقف من التسوية وهو تباين حول الآليات وليس حول مبدأ التسوية أو الصفة التمثيلية للمنظمة، وتحول الثوار إلى موظفين أو رجال أمن بمهام غامضة.

كان تأسيس السلطة بقرار صادر عن المجلس المركزي الفلسطيني في دورته المنعقدة من 10-12/10/1993 في تونس، جاء فيه (أولاً: تكلف اللجنة التنفيذية بمنظمة التحرير الفلسطينية بتشكيل مجلس السلطة الوطنية الفلسطينية في المرحلة الانتقالية من عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية وعدد من الداخل والخارج. ثانياً: يكون السيد ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية رئيساً لمجلس السلطة الوطنية الفلسطينية).

أيضاً فإن القانون الأساسي للسلطة أكد على منظمة التحرير هي مرجعية السلطة،حيث جاء فيه (إن ميلاد السلطة الوطنية الفلسطينية على ارض الوطن فلسطين، ارض الآباء والأجداد، يأتي في سياق الكفاح المرير والمستمر، الذي قدم خلاله الشعب الفلسطيني آلاف الشهداء والجرحى والأسرى من خيرة أبنائه، لأجل نيل حقوقه الوطنية الثابتة المتمثلة في حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني أينما وجد).

فحيث أن تأسيس السلطة جاء في إطار تسوية مرفوضة من طرف حركة حماس-والجهاد الإسلامي أيضاً-فقد رفضت حركة حماس الاعتراف بالسلطة بدايةً، ثم قبلت بها كأمر واقع دون أي تعاون يذكر، وهي أساساً لم تكن راغبة بالانضواء في النظام السياسي الذي تمثله منظمة التحرير الفلسطينية، بل وقفت موقفاً معادياً من السلطة، وبذلت كل ما من شأنه أن يعيق عملها ويسيء لسمعتها، وسنلاحظ لاحقاً كيف غيرت حماس موقفها من المشاركة بالنظام السياسي وبالسلطة عندما دخلت الانتخابات التشريعية وأصبحت هي السلطة.

من جهة أخرى فقد بات واضحاً بأن كل مسعى للسلطة الوطنية لتعزيز نفوذها محلياً ودولياً كان أحياناً يصب في اتجاه معارض للمنظمة ومهمش لها. لا شك بأن تراجع المنظمة قد بدأ مع بدء الحوار مع أمريكا عام 1988 ثم مع حرب الخليج والأزمة المالية والسياسية المصاحبة لها، إلا أن أزمة المنظمة تكرست بعد تشكل السلطة، حيث أن البعض من نخبة المنظمة وعلى رأسهم البعض من قادة حركة فتح بدأوا يفكرون بالسلطة وامتيازاتها على حساب التفكير بإحياء المنظمة، كانت السلطة بالنسبة لهم فرصة للاغتناء المالي وتعويضاً لسنوات الحرمان أكثر مما هي محطة نضالية لاستكمال مشروع التحرير، ومن هنا عم الفساد والفوضى الأمنية وترهلت مؤسسات السلطة، ومعها تم تشويه المنظمة وعمودها الفقري حركة فتح.

يبدو بأن توجها مقصودا تولد لدى بعض النافذين بالسلطة بأن يتم تهميش المنظمة، ذلك أنه بالرغم من أن المنظمة هي المسؤولة عن ملف المفاوضات والعلاقات الخارجية، إلا أن دورها بدا يتراجع ونلمس ذلك من خلا عدة مؤشرات، منها أن خطة خارطة الطريق تمت على يد السلطة ممثلة برئيس الحكومة والوزراء، حيث سلمت اللجنة الرباعية ملف خطة خارطة الطريق لرئيس وزراء السلطة، أيضاً استُحدث في السلطة منصب وزاري جديد وهو منصب وزير شؤون المفاوضات، كما أن وجود منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية بدلا من منصب وزير التخطيط والتعاون الدولي أدى لتهميش الدائرة السياسية للمنظمة، وقد تجلى ذلك في الخلاف الذي احتدم بين نبيل شعث وأبو اللطف.

وهكذا أصبح النظام السياسي الفلسطيني في ظل سلطة الحكم الذاتي يعيش علاقة ملتبسة وشائكة ما بين المنظمة والسلطة، وتفاقمت هذه الإشكالية مع تعزيز نفوذ حركة حماس خلال سني الانتفاضة. ليس من المؤكد أن الانتفاضة أتت في إطار فعل موجه ومخطط له من قبل السلطة الفلسطينية أو المعارضة، وبالتالي أصبح من الصعب القول بأن الانتفاضة كفعل استند في استمراريته إلى وجود إستراتيجية محددة من قبل النظام السياسي الفلسطيني سواء حول الهدف منها، أو ما يمكن أن تجنيه وتحققه لصالح القضية الفلسطينية، أو حول كيفية توجيه وتنظيم العمل الانتفاضي، لذلك اتسمت (الإستراتيجية الفلسطينية) بالعديد من التباين اتضحت معالمه في الافتقار إلى رؤية موحدة في الهدف وغياب التوافق حول الوسيلة، وصار النظام السياسي الفلسطيني يعمل في ظل استراتيجيات بعدد الفصائل والأحزاب- فتعدد الاستراتيجيات لا يعني وجود إستراتيجية عمل وطنية- فكيف يمكن القول بوجود هذه الإستراتيجية للنظام السياسي الفلسطيني مع وجود من ينادي بحرب تحرير شعبية هدفها تحرير كامل فلسطين وان تكون كل فلسطين بما فيها أراضي عام 1948، مسرحاً للنضال والعمل العسكري واعتبار المدنيين الإسرائيليين هدفاً مشروعة، وهناك من يقتصر الهدف الوطني على تطبيق الشرعية الدولية، وهناك من يتبنى خيار المقاومة ولكن لتحسين شروط المفاوضات…الخ، وكل ذلك في غياب تنسيق بين هذه الاستراتيجيات بل كانت كل منهما تهدم ما تبنيه الأخرى.

2- الانتخابات التشريعية وإعادة خلط الأوراق

لم يكن فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية فوز لحزب على بقية الأحزاب في انتخابات تشريعية تعرف مثيلا لها غالبية دول العالم، بل يصح قول من وصف الأمر بالانقلاب أو الزلزال، ولكنه ليس زلزالاً من حيث اكتساح حركة حماس لغالبية مقاعد المجلس التشريعي بل من حيث التداعيات القانونية والإستراتيجية لهذا الفوز على مجمل الصراع في المنطقة، وعلى المرجعية القانونية والشرعية للشعب الفلسطيني، وهو الموضوع الذي لم يتطرق له المحللون.

لو كان الفوز من نصيب حزب من أحزاب منظمة التحرير ما كان الأمر يثير إشكالات كثيرة، ولو فازت حماس وأخذت موقعاً كحزب معارض بالمجلس التشريعي، واستمرت السلطة بيد حركة فتح أو تحالف من فصائل منظمة التحرير أيضاً، لكان الأمر قابل للتعامل معه ضمن نفس الثوابت والمرجعيات المؤسسة والمسّيرة للنظام السياسي، ولكن من فاز هي حركة حماس التي هي خارج منظمة التحرير وخارج النظام السياسي، ولها ميثاقها الخاص بها والذي تعتبر بديلاً لميثاق منظمة التحرير، ومن المعلوم أن كل المحاولات التي جرت لإدماج حركة حماس في منظمة التحرير قد باءت بالفشل.

مفترض أن تكون الانتخابات مجرد انتخابات المجلس التشريعي لسلطة حكم ذاتي منبثقة عن اتفاقية أوسلو، وهذا يعني أن صلاحيات المجلس التشريعي والحكومة التي ستنبثق عنه لن تتعدى إدارة أمور الفلسطينيين داخل المناطق التي تسيطر عليها السلطة وإصلاح أوجه الخلل في أداء السلطة، وهو الخلل الذي بسببه انتخب الشعب حركة حماس، أما القضايا الإستراتيجية كالاعتراف بإسرائيل والمفاوضات والعلاقات الخارجية فليست من اختصاص السلطة الوطنية بل من اختصاص منظمة التحرير الفلسطينية التي هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهي بصفتها هذه وقعت الاتفاقات. فهل يمكن لمجلس منتخب من جزء من الشعب لممارسة حكم ذاتي على جزء من الوطن أن يتحدث باسم كل الشعب الفلسطيني ويطرح نفسه ممثلا عنه مُغيباً الممثل الشرعي والوحيد-منظمة التحرير الفلسطينية؟

هذه التساؤلات تطرح نفسها بشدة ونحن نرى حماس تتصرف وكأنها ممثلة لكل الشعب الفلسطيني، ونسمع ونرى تسابق دول عربية وأجنبية للاتصال مع حركة حماس ودعوتها لزيارتها، وتعامل عديد من الدول مع حركة حماس، وكأنها العنوان الرئيسي للشعب الفلسطيني ومطالبتها بأمور هي من اختصاص منظمة التحرير كالاعتراف بإسرائيل وبالاتفاقات الموقعة معها وقرارات الشرعية الدولية، بل واستعداد بعض الدول كتركيا أن تلعب دور الوسيط بين حركة حماس وإسرائيل للتفاهم على القضايا الإستراتيجية محل الخلاف، حتى بالنسبة للأطراف المعارضة والمتحفظة على فوز حماس فإنها تتعامل مع حركة حماس وكأنها هي التي تمثل الشعب الفلسطيني، متناسين وعن قصد بأن الانتخابات التي جرت هي لأقل من مليون نسمة من سكان الضفة وغزة، أي لعشر عدد الشعب الفلسطيني. فهل ولى زمن منظمة التحرير كممثلة لكل الشعب الفلسطيني؟ وهل انفض حلفاء حركة فتح والمنظمة عنهما وحولوا الاتجاه نحو حركة حماس؟

ما يشر عن كل هذه التساؤلات ويحفز العقل على التفكير والتحليل السطحي لما يجري هو ما طرأ على قانون الانتخابات من تغيير، فمن المعلوم أن مبرر المطالبة بتغيير قانون الانتخابات رقم 13/1995 هو تغيير النظام الانتخابي ليصبح نظاماً مختلطاً، وكانت هذه هي نقطة جوهرية في حوار القاهرة بين الفصائل الفلسطينية الذي جرى في مارس 2005، والذي بمقتضاه تم الاتفاق على التهدئة وعلى النظام الانتخابي المختلط، ولكن المثير إن التغير مس بنودا في القانون الانتخابي على درجة من الأهمية والخطورة ولم تكن مثار نقاش علني مما يدفع للتساؤل هل هو مجرد خلل تقني، أم مؤامرة من اللجنة القانونية في المجلس التشريعي؟ أم الأمر يتعدى ذلك لتفاهمات ضمنية تتعدى الأطراف الفلسطينية وتشارك فيها حركة حماس لأن حماس ترى أنه ليس من الإنصاف أن يكون تمثيلها في المجلس الوطني بعدد مقاعدها في المجلس التشريعي؟ والتغيير المقصود هو إسقاط الفقرتان الأولى من المادة 3 والسابعة من المادة 12 من القانون رقم 13 لسنة 1995.

الفقرة الأولى من المادة 3 تنص على

"يكون أعضاء المجلس الوطني (التشريعي) فور انتخابهم أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني وفقاً للمادتين (5) و(6) من النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية".

أما الفقرة الأولى من المادة 12 فتنص على:

"لا يجوز لعضو المجلس الوطني الفلسطيني أن يرشح نفسه لعضوية المجلس التشريعي، إلا إذا قام بنقل قيده من دوائر الخارج، بموجب كتاب مصدق من رئاسة المجلس الوطني الفلسطيني، إلى إحدى الدوائر الستة عشر وتسري بحقه الأحكام الواردة في هذه المادة".

بالإضافة إلى التغيير الذي مس هاتين المادتين، فقد تجاهل القانون الانتخابي الجديد المذكرة الإيضاحية المرفقة بالقانون الانتخابي القديم والمكونة من صفحتين والتي وضعت في القانون القديم لقطع الطريق على أية محاولة لتجاوز منظمة التحرير، وللتأكيد على وحدة الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الخارج، حيث جاء في هذه الفقرة ما يلي:

"إن إجراء الانتخابات لرئيس السلطة الوطنية وأعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني باعتبارهم أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني، جاء مؤكدا على وحدة الشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده، الأمر الذي يشكل خطوة هامة على طريق تحقيق حقوقه الوطنية ومطالبه العادلة، وبناء مستقبله ومؤسساته المسؤولة أمام الشعب صاحب السيادة".

إذا ربطنا ما بين التعديل الذي مس قانون الانتخابات والاهتمام العالمي بفوز حماس والتعامل معها كممثلة للشعب الفلسطيني، وربطنا كل ذلك بتهميش منظمة التحرير بميثاقها ومجلسها الوطني لمدة عشر سنوات، ثم الأزمات المتكررة للعمود الفقري للمنظمة وهي حركة فتح، وسقوطها المدوي في الانتخابات التشريعية، والفشل الذريع لبقية فصائل منظمة التحرير، من كل ذلك يمكن القول أنه كانت هناك محاولات لتهميش منظمة التحرير الفلسطينية لصالح السلطة الوطنية، وهذه المحاولة كان يقف وراءها أشخاص من المنظمة ومن حركة فتح وأطراف خارجية، ولكن عندما حدث ما لم يكن في الحسبان وفازت حماس بالأغلبية وأصبحت حزب السلطة ووجدتها فرصة لإطلاق رصاصة الرحمة على منظمة التحرير منافستها على تمثيل الشعب، استفاق الفتحاويون من غفوتهم واكتشفوا خطورة تغييب المنظمة لأنها في ظل فقدانهم السلطة تبقى بالنسبة للمخلصين من هم الأمل الأخير للحفاظ على المشروع الوطني والإطار الذي يمكنه أن تستقوي به حركة فتح، وبالنسبة للمتطلعين للسلطة والمناصب تبقى المنظمة مصدر شرعية لامتيازاتهم وسيفاً يمكن أن يحاربوا حماس به. كل ذلك يفسر الوضع الصعب والمعقد لتشكيل حكومة حمساوية اشخاصاً وبرنامجاً والمأزق الذي يواجهه النظام السياسي في عملية التوفيق ما بين المكونات الثلاث: المنظمة والسلطة وحكومة حمساوية.

3- حكومة لا تحظى بقبول الممثل الشرعي للشعب فكيف ستمثل الشعب؟

حدث ما كنا نخشاه وازداد النظام السياسي تأزماً بعد رفض اللجنة التنفيذية بصفتها الأداة التنفيذية لمنظمة التحرير –يوم 23/3/2006، برنامج الحكومة التي شكلها رئيس الوزراء المكلف السيد إسماعيل هنية، وهو رفض متوقع لأنه لا يُعقل أن تعترف مرجعية أعلى بمرجعية أدنى لا تعترف بها ولا بالقانون الأساسي الذي شرّع الانتخابات! وبات للنظام السياسي ثلاثة رؤوس أساسية: منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد بمقتضى الميثاق الوطني وبمقتضى القانون الأساسي للسلطة وبمقتضى الاعتراف العربي والإسلامي والدولي، ورئيس للمنظمة والسلطة، ثم حكومة تترأسها أغلبية أنتُخبت من جزء من الشعب على جزء من الأرض وببرنامج متعارض مع برنامج الممثل الشرعي لكل الشعب.!

فلأول  مرة في تاريخ الأنظمة السياسية الديمقراطية أو البرلمانية تحدث انتخابات وتتقدم الأغلبية الفائزة ببرنامج حكومي يتعارض مع دستور الدولة! نعم يمكن أن تكون الأغلبية وحكومتها من لون سياسي والرئيس من لون آخر، ولكن أن تكون الحكومة وبرنامجها ضد دستور الدولة وقانونها الأساسي فهذه سابقة ومعضلة تحتاج إلى عقول دستورية وسياسية جبارة لحلها.

تشكيل حكومة حمساوية بعيداً عن مشاركة القوى السياسية الأخرى والمستقلين يضع النظام السياسي والمشروع الوطني الفلسطيني برمته موضع تساؤل، فكيف يمكن أن يقاد هذا المشروع بأكثر من رأس ومرجعية؟ وما فائدة الانتخابات إن لم تؤد لتشكيل حكومة ائتلافية؟ وما هو المشروع الوطني الذي تقوده حركة سياسية-حركة حماس-تقول بأنها امتداد لحركة –جماعة الإخوان المسلمين-ليست فلسطينية لا المنشأ ولا القيادة ولا الاهتمامات؟

ومع كامل الاحترام والتقدير لحركة حماس كحزب انتخبه الشعب في الضفة الغربية وغزة وله تاريخه النضالي، ومع الإقرار بأن تهميش منظمة التحرير بدأ على يد أصحابها وبأن سلطة فتح فشلت، أو أفشلت- في الارتقاء لطموحات الشعب، إلا أن حماس بمشروعها الديني الذي هو امتداد لقيادة خارجية ومشروع يتجاهل الهوية الوطنية والاستقلالية الوطنية، لا يمكنها أن تكون إطارا مستوعباً وموحداً لكل فئات الشعب وأحزابه السياسي، فيما منظمة التحرير يمكنها أن تكون ذلك، ولكن بطبيعة الحال بعد إنهاضها من كبوتها وبث الروح فيها واستيعابها لكل القوى السياسية الجديدة وخصوصاً حماس والجهاد الإسلامي، ونعتقد بأن ميثاق المنظمة وقانونها الأساسي من المرونة والأريحية السياسية والعقائدية بما يسمح بأن تمثل كل أطياف المشهد السياسي الفلسطيني.

خلاصة

لقد بات واضحاً أن للمأزق الذي يعيشه النظام السياسي الفلسطيني جذوراً، وهذه الجذور ترجع للحظة التي دخلنا فيها انتخابات تشريعية قبل الاتفاق على ثوابت ومرجعيات مشتركة، ذلك أنه لا يمكن أن يحدث تداول ديمقراطي سلمي على السلطة بين أحزاب سياسية ذات برامج متناقضة، وقد نبهنا إلى هذه الحيثية في أكثر من مقال وندوة سياسية ومقابلة تلفزيونية، ولكن يبدو ان غالبية الأطراف السياسية دخلت اللعبة الانتخابية والديمقراطية ليس  بثقافة ديمقراطية بل بعقلية انقلابية وتحت ضغوط خارجية، ومن كان منها حسن النية حاصرته من جانب ثقافة شعبية مشعبة بالعواطف ومُقادة وراء الأقوى أو الأكثر ضجيجاً، ومن جانب آخر قوى التآمر والتخريب التي تسيرها أطراف خارجية. أيضاً ترجع الجذور إلى بنية مؤسساتية تفتقر للفكر والتفكير الاستراتيجي، ذلك أن وصول المشهد السياسي الفلسطيني إلى ما وصلنا إليه يُفسر بواحد من اثنين:

الأول: أن العملية الانتخابية برمتها هي صفقة دولية بمشاركة أطراف محلية تفتقر للوطنية هدفها وقف الانتفاضة وتدمير المشروع الوطني الفلسطيني من خلال تدمير قواه الحية، حركة فتح وحركة حماس وفصائل منظمة التحرير، بعد أن عملوا لسنوات على تدمير المنظمة وتحييد حركة الجهاد تمهيداً لتصفيتها.

الثاني: غياب المفكرين الاستراتيجيين في مراكز اتخاذ القرار عند السلطة والمعارضة، معاً بحيث لم تتم قراءة خطة شارون للانفصال الأحادي الجانب قراءة إستراتيجية بحيث يتم الربط بينها وبين مأزق المفاوضات ومأزق النهج العسكري للفلسطينيين ثم التهدئة والإصرار الأمريكي على إجراء الانتخابات في موعدها، بالرغم من وضوح التدهور المتزايد لحركة فتح وقوى اليسار، أيضاً عدم اخذ الحوار الوطني للتوصل لثوابت ومرجعيات مشتركة مأخذ الجد.

ما الحل؟

الحل بسيط إذا غلّبت القوى السياسية المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية والشخصية، وإذا ما وضعنا نصب أعيننا أننا ما زلنا تحت الاحتلال، وإذا ما اعترفت حركة فتح بأن نهجها التفاوضي كان عقيماً وأدى بنا للتحول لشعب من الشحاذين كما قال أحد رموز السلطة د.نبيل شعث، وان تعترف حركة حماس ومن ينهج نهجها بأن الحسم العسكري لصالحنا غير ممكن في المدى المنظور، وان العمليات الاستشهادية والتباهي بعدد الشهداء هو أيضاً نهجاً عقيماً وكان سبباً في أن حصاد الانتفاضة كان مُراً وسلبياً. وإن لم يتمكن الطرفان من التوصل لإستراتيجية عمل وطني موحد آنذاك سيتأكد الشعب بأن نخبته السياسية فاشلة وليست أهلاً لأن تكون قيادة لهذا الشعب العظيم. المشكلة ليست مشكلة دستورية ولا مشكلة نصوص والتزامات، ولكنها مشكلة انعدام ثقة بين القوى السياسية، ومشكلة مصالح ضيقة.


(*) ورقة عمل،  مقدمة لمؤتمر "التطورات السياسية الفلسطينية في ضوء الانتخابات التشريعية 2006"، معهد دراسات التنمية. غزة_فلسطين، مارس 2006.

(**) أستاذ العلوم السياسية – جامعة الازهر-غزة.

الهوامش:


[1]      موسوعة العلوم السياسية، جامعة الكويت، 1994، ص 514

[2]      انظر حول الموضوع: إبراهيم إبراش، فلسطين في عالم متغير، المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي، رام الله، 2003، ص99

[3]      من المعلوم أن منظمة التحرير نشأت بقرار من قمة عربية وكانت في بدايتها مسيرة من الدول العربية.

[4]      جريدة الحياة 18/9/1989 ذكر في يزيد صايغ، الكفاح المسلح، والحديث عن الهوية، ص908

 


الصفحة الرئيسية | مجلة المركز | نشرة الأحداث الفلسطينية | إصدارات أخرى | الاتصال بنا


إذا كان لديك استفسار أو سؤال اتصل بـ [البريد الإلكتروني الخاص بمركز التخطيط الفلسطيني].
التحديث الأخير:
03/05/2006 10:19 ص