ما بعد تسونامي حماس

 

بقلم ناتان براون(*)

ترجمة : زهير عكاشة

لاشك أن صدمة الانتصار الساحق الذي حققته حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي جرت يوم الخامس والعشرين من يناير كانون الثاني أوقعت جميع الأطراف المعنية في مشاكل وخيارات لم تستعد لها. المشكلة لا تكمن في أن الكثير لم يتوقع هذا الحجم من الانتصار الذي حققته حركة حماس بل في أن أطراف الصراع المختلفة تبنت بعد الانتخابات نهجاً ومجموعة قضايا تختلف كلياً عن تلك التي تواجهها فعلاً.

الوضع بطبيعة الحال ضبابي بسبب طبيعة حماس إذ أن اللغة والجدال اللذين تستخدمهما لا يتوافقان إطلاقا مع تلك المستخدمة من قبل ممثلين آخرين، لدرجة أنه يصعب جداً تمييز الخطاب الخداعي عن  المبادرة المخلصة. وسعياً إلى توضيح الخيارات والنتائج المحتملة فقد رأيت أن أعالج في هذا التحليل أربعة أسئلة:

-      على ماذا صوت الفلسطينيون يوم الخامس والعشرين من يناير؟

-      ما هو برنامج والأولويات التي ستطرحها حماس؟

-      ماذا ستفعل حماس بأغلبية برلمانية؟

-      ما هي الخيارات المتروكة أمام المانحين الغربيين؟ هل هناك احتمال لمغازلة حماس لتقدم وعود أكثر ايجابية بالنسبة لإسرائيل؟

أولا:  على ماذا صوت الفلسطينيون يوم الخامس والعشرين من يناير؟

بالرغم من أن الناخب الفلسطيني فاجأ الكثيرين بخياره، إلا أن ميوله الأساسية كانت واضحة جداً قبل الانتخابات، لدرجة أن الأحزاب المختلفة صاغت برامج انتخابية متشابهة جداً لمخاطبة المزاج العام وأصبح من الصعوبة بمكان التمييز بين الأحزاب فالكل عارض الفساد وأيد إيجاد فرص عمل جديدة وكل الأحزاب مجدت الانتفاضة والمقاومة (رغم غموض التحديد) وعارضت الاحتلال الإسرائيلي. كانت القدس بؤرة الحملات الدعائية الانتخابية أيضا. اغلب الأحزاب سعت إلى صقل أوراقها الوطنية. فتح على سبيل المثال ملأت جدران المدن الفلسطينية بملصقات لصور مروان البرغوثي وهو مكبل اليدين وحماس التي تبنت شعار "أمريكا وإسرائيل يقولان لا لحماس… وانتم ما ذا تقولون؟"

هناك بالتأكيد بعض التباينات، ففتح تؤيد جهراً التفاوض مع إسرائيل، لكن حماس تعارض ذلك بشكل عام (رغم أن تصريحات بعض قادتها تركت مجالاً للمناورة). وبالنسبة للصور الإسلامية فقد برزت في كثير من برامج الأحزاب الانتخابية كصورة المسجد الأقصى، بيد أن أي من هذه الحملات لم تستطع منافسة حماس في توظيف الرموز الدينية واللغة في كل ناحية يتصورها الإنسان، حتى أن قبعات من قاموا على الحملة الانتخابية لحماس كان مكتوب عليها شعارات دينية مثل لا اله إلا الله ومحمد رسول الله. سجلت قائمة حماس باسم التغيير والإصلاح، وقد توقع بعض المراقبين أن تحافظ القائمة الانتخابية على مسافة ما بينها وبين حماس نفسها املاً في اجتذاب ناخبين ومرشحين من ذوي العقليات المستقلة بيد أن الحركة تغاضت عن هذا النهج حيث أعلنت جهراً أن مبدئها يكمن في الإصلاح والتغيير مصورة نفسها على أنها ذراع جماعة الأخوان المسلمين في مصر.

الحملة الانتخابية كانت حامية، ففتح تؤيد الحل على أساس دولتين وكانت شريكاً نشطاً وفعالاً في عملية السلام التي انطلقت عام 1993، بينما تعارض حماس مثل هذا الحل وترفض العملية السلمية، التي لم يظهر لها اثر يلوح في الأفق، حتى يوم الانتخابات يوم الخامس والعشرين من يناير 2006 ليصوت الناخب لها. وفتح التي تؤكد أن مواقفها هي الأقرب إلى المزاج العام الفلسطيني، لم تبذل جهوداً كبيرة لإثارة قضية مواقف حماس المتصلبة من المفاوضات ومن الحل على أساس دولتين. ولكن مع عدم وجود عملية سلمية حقيقية يمكن أن يشار اليها، بدا أن الادعاء بالقدرة الخارقة مع التفاوض على إسرائيل لم يكن أمراً مجدياً في الحملة.

ومع أن جميع الأحزاب خاضت الانتخابات بنفس البرامج الانتخابية تقريباً إلا أن القدرة والمصداقية فاقا الايدلوجية وهذا هو الذي جعل حماس تتبوأ مكانة مرموقة، فيما تأرجحت فتح ما بين خوض الانتخابات على أساس سجلها أو الاعتذار عن اخطاءها، وكليهما ثبت عدم جدواهما. أما حماس فعلى النقيض عرضت سجلاً ناجحاً في إدارة البلديات التي تولتها والاهم من ذلك أنها استطاعت عرض صورة نموذجية للخدمات العامة والنزاهة الشخصية التي تناقضت تناقضاً صريحاً مع صورة المشاحنات الداخلية والمناورات اليائسة داخل نخبة حركة فتح. الفوضى داخل فتح لم تكن أمراً غير لائقاً فحسب بل هدد الحركة. ففي الأسابيع التي سبقت الاقتراع تورطت عصابات فتح في عمليات الاختطاف والهجمات العنيفة على المؤسسات والمكاتب الحكومية وحتى كلٌ على الآخر, وفي مثل هذه الحالة يكون التصويت لحماس تصويت ضد العنف والفوضى المحلية.

لقد أنجزت حماس الكثير من وراء الخدمات الاجتماعية التي توفرها وهذا بلا شك جانب من شعبيتها. بيد أن حماس تمثل في ضخامتها أكثر من مجرد آلة لإغداق النعم على الموالين لها بل هي حركة ذات قاعدة اجتماعية عريضة مرتبطة بكثير من المؤسسات في الضفة الغربية وغزة. دأبت حركة حماس في غزة على تطوير منظمات تطوعية غنية، وكذلك جمعيات خيرية ودور حضانة ومعاهد تعليمية. هذه المؤسسات ذات اللون الإسلامي لا تحمل أي انتماء رسمي للحركة ولكنها لازالت تدير شبكات اجتماعية محلية توفر المناخ المؤيد لحماس فضلاً عن أن ست سنوات من الخنق الاقتصادي زاد من الاعتماد على هذه المؤسسات.

من هنا نقول أن انتصار حماس يعود بالدرجة الأساس إلى ترتيب وتنظيم برنامجها الانتخابي، ولاسيما المتعلق بالقضية الفلسطينية- الإسرائيلية وهذا ما اتضح من خلال نتائج التصويت. لقد أدلى الفلسطينيون في انتخابات الخامس والعشرين من يناير بصوتين في صناديق الاقتراع، الأول لقائمة الوطن بحيث يختار الناخب واحد من أحد عشر حزباً، وفي هذا الاقتراع حصلت حماس على 45% تقريباً من نسبة الأصوات التي حصلت عليها في القائمة الوطنية، وهذا يعني أن 55% من الناخبين الفلسطينيين صوتوا لصالح الأحزاب التي تبنت بوضوح الحل على أساس دولتين. الفضل في الانتصار الساحق لحماس يعود إلى الاقتراع الثاني الذي انقسم فيه الناخبون إلى 16 منطقة تضم أشخاص عديدون. بإمكان الناخب هنا أن يختار عدد المرشحين المخصصين لدائرته (فعلى سبيل المثال في دائرة خانيونس، يطلب من الناخب اختيار خمسة أسماء من بين 43 اسماً، والأسماء الخمسة الأولى التي تحصل على أعلى عدد من الأصوات هي التي تفوز).

تنظيم حماس والتعبئة الانتخابية التي قامت بها حققا نتيجة بارعة، فبينما صوت مؤيدو حماس بشكل كاسح لمرشحي الحركة، نرى أن مؤيدي فتح وسائر الأحزاب الأخرى بعثروا أصواتهم على قائمة طويلة من المرشحين.

هذا النظام الانتخابي كان نتاج مناورات داخل حركة فتح ومساومات مع الأحزاب الصغيرة التي فضلت كثيراً النظام الوطني. في النهاية تحول نصر حماس من نصر بفارق ضئيل إلى أغلبية ساحقة. بسبب ذلك في انتخابات الخامس والعشرين، توزع اختيار الناخبين الفلسطينيين ما بين أحزاب أكدت كلها على تمسكها بنظافة ونزاهة الحكم والقضية الوطنية. ورغم أن الأغلبية لم تصوت ضد الحل على أساس دولتين إلا أن الانتخابات تمخضت عن انتصار للحزب الوحيد الذي يعارض هذا الحل، وإن كانت هذه المعارضة تتسم أحيانا بالمراوغة وعدم الإنكار.

ما هي برامج حماس؟

حماس حزب سياسي يفتخر بأنه صاحب حكمة وملتزم بمبادئه. ترى ما هي هذه المبادئ وكيف ستتحرك حماس لتحقيقها؟ على الصعيد المحلي تمتلك حماس أجندة دينية واضحة وجلية. امتلأت دعايتها الانتخابية بالرموز الدينية بيد أن الشيء غير الواضح، هو ما إن كان كثير من القضايا الدينية ستبرز فوراً في برنامجها التشريعي. هناك مجالات تستطيع فيها حماس تحقيق أهدافها بطرق فعالة جداً، فعلى سبيل المثال لن يكون من الضروري حظر بيع المشروبات الكحولية قانونياً لأن البيئة الدينية المحافظة وكذلك سيطرة الحزب على كثير من البلديات قد يكون كافياً لوضع حد للاستهلاك ذلك في اغلب المناطق. في مسائل أخرى كالزي الشخصي لن يكون هناك حاجة لارغام المرأة على تغطية رأسها لان الضغط الاجتماعي كافياً لتقيد بعض الممارسات الشائعة سابقاً في أغلب المناطق الفلسطينية. لقد ألمحت حماس إلى إمكانية الاستعجال في تغيير النظام التعليمي وقد ترغب في فصل الجنسين عن بعضهما البعض (وهذا ممارس أصلا في بعض المدارس) وزيادة حجم التربية الدينية (وهو مادة إجبارية أصلا). هناك عناصر تقدمية في المنهاج الفلسطيني الجديد (كالتربية المدنية وقضايا المرأة والرجل)، قد تخضع للتمحيص مع أن حماس لم تطرح اقتراحات تفصيلية للتغيير.

أما بالنسبة للبرنامج الاقتصادي لحماس فقد يواجه تنفيذه هنا بعض العراقيل بسبب البرنامج المكثف من المساعدات الدولية الذي قد يتعرض للخطر. تأتي هذه المساعدة على ثلاثة أشكال: دعم مباشر لميزانية السلطة الفلسطينية، برامج تنموية مكثفة بدءاً من المياه وانتهاءً بالتعليم القانوني والمساعدات الإنسانية (الكثير منها يضخ عبر وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأونروا) الشكل الأول من هذه المساعدات مهدد بالقطع بسبب فوز حماس، أما الشكل الثاني من المساعدات فقد يتم تخفيضه سواء من حيث الكثافة أو المجال، فضلاً عن أن الشكل الثالث تعرض لانتقادات سياسية داخلية لاذعة من بعض الدول ولاسيما الولايات المتحدة.

أشارت حماس إلى أنها ستجد مانحين أجانب آخرين لتعويض قطع المساعدات من قبل الدول المانحة الغربية، ومن المحتمل جداً أن تكون إيران والعربية السعودية ودول عربية أخرى في منطقة الخليج العربي العنية بالنفط هي المصدر. بيد إنه لا يمكن دائماً الاعتماد على تمويل هذه الدول رغم أنه يأتي بدون شد حبال وبحسابات مالية ليست كبيرة. الشيء الأقل واقعية هو إشارة حماس إلى إمكانية إتباع سياسة الاستقلال الاقتصادي. في ظل وجود اقتصاد فلسطيني مدمج بشكل تام في الاقتصاد الإسرائيلي يصعب هنا نجاح هذا التوجه على المدى القصير وقد لا يكون معقولاً على المدى البعيد. إذا تحركت حماس نحو إلغاء بروتوكول باريس (الاتفاق الذي مازال لغاية الآن يحكم العلاقات الاقتصادية الإسرائيلية-الفلسطينية) سعياً منها إلى إنهاء التبعية الاقتصادية لإسرائيل، فعندئذ سيعاني الفلسطينيون أكثر بكثير مما ستعانيه إسرائيل. المشكلة الاقتصادية لا تشكل تحديات بالدرجة التي تشكلها تحديات القضية التي جلبت الانتباه الدولي وهي توجه حماس فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل. تتبنى حماس هنا نهجاً متطرفاً، فهي ترفض الحل على أساس دولتين، وتعتبر كل فلسطين ارضاً محتلة، وتدعو لإنشاء دولة إسلامية على كافة أرجاء البلاد وترى في العنف ضد الأهداف الإسرائيلية مقاومة مشروعة، وتؤكد على حق اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948 في العودة كأفراد إلى وطنهم (كون الحق هو لأفراد وليس لشعب فمعنى ذلك أنه لا يلغي أو يساوم عليه). ليس هناك أي مجال لأي تسوية سلمية في ظل هذه المواقف.

ألمحت حماس، تلميحاً فقط، أنها مستعدة لتقديم تنازلات. ترى هل فتحات الهروب هذه يمكن استغلالها لتبرير تجديد المفاوضات السلمية أم أنها مجرد نافذة لتغطية تطرف الحركة؟ وهذا أهم سؤال ينبغي على حماس وغيرها من اللاعبين الاجابة عليه.

لقد أشارت حماس إلى أنها ستتخذ موقفاً أكثر تصالحياً عندما صرحت عن إمكانية الهدنة طويلة الأمد بين إسرائيل والدولة الفلسطينية. ورغم أن حماس لا تعترف بشرعية إسرائيل (وأحياناً تشير إلى أنها لن تفعل ذلك أبداً) إلا أنها أشارت إلى أنها قد تقبل بحقيقة وجود إسرائيل كمسألة عملية وتعيش بسلام معها إذا انسحبت إلى حدود العام 1967، وأسخى عرض ضمن هذا الاقتراح هو أن تستمر الهدنة لفترة غير محددة، بحيث يترك الأمر لجيل المستقبل الذي يقرر البديل. فكرة الهدنة تشير إلى نعومة في موقف الحزب لكنه لا يعتبر أساسا واعداً لأي دبلوماسية، فاللغة المستخدمة تعتبرها إسرائيل تحايل يكتنفه الغموض حسب أقل تقدير.

أشارت حماس مؤخراً إلى إمكانية إجراء مفاوضات من الدرجة الثانية. فالمجلس التشريعي الفلسطيني الذي تحظى حماس بالأغلبية فيه، لا يتمتع بصلاحية التفاوض مع إسرائيل لأن هذا الدور منوط بمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي هيئة، وإن كانت مشلولة، إلا أنها تمثل الفلسطينيين في شتى أرجاء العالم. وفي عام 2005 اجتمعت جميع الفصائل الفلسطينية في القاهرة وتوصلت إلى اتفاق على مجموعة من القضايا كوقف العنف ضد إسرائيل حتى نهاية العام 2005 شريطة التزام إسرائيل بذلك، والترتيب لإجراء انتخابات تشريعية، وإعادة بناء منظمة التحرير. الاقتراح الأخير لم يحظ بأي اهتمام آنذاك بيد أنه كان يشكل عنصراً هاماً من جهود دمج حماس في النظام السياسي الفلسطيني كون حماس لم تنضم أبداً لمنظمة التحرير الفلسطينية.

لم يجر تحديد أي بنود دقيقة وبذلت جهود قليلة لتنفيذ التعهد، ولكن مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات التشريعية بدأ قادة حماس يروجون لفكرة، وهي أنه رغم أن حماس لن تتفاوض مع إسرائيل إلا أنها ستشارك في مؤسسات منظمة التحرير التي ستقوم بالمفاوضات. انضم كثير من الفلسطينيين لحماس في اقتراح إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لاستئناف المفاوضات رغم انتصار حماس، وهناك مَنْ أشار إلى أن عباس يستطيع أن يتفاوض مع إسرائيل بصفته الرئيس. لا شك أن مثل هذه التوجهات توفر صيغ حقيقية لاستئناف المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية من جديد، ولكن هناك عنصراً حاسماً مازال حتى الآن مفقوداً من تلميحات حماس: لا توجد هناك أي إشارة لإمكانية قبول حماس بالنتيجة التي قد تتمخض عنها هذه المفاوضات.

مهما كانت ميول قادة حماس تظل الحركة محدودة من حيث بُعد وكيفية التحرك، أبدت حماس خطابياً التزام جدي ضد المفاوضات السابقة، والحركة تتباهى بالحفاظ على سمعتها خصوصاً فيما يتعلق باحترام كلمتها. حماس مثقلة بعبء عملية صنع القرار في ظل قيادة مشتتة جغرافياً. وقرار دخول الانتخابات التشريعية وبعدها دخول الحكومة، لهما مثالين على مثل هذا الشيء.

في مسألة رئيسية كالتفاوض مع إسرائيل يأتي التغيير بشكل بطيء جداً إن كان فعلاً سيأتي. أفضل وسيلة لتقييم التغيير الحقيقي والعلني والقبول النهائي بتسوية متفاوض عليها، تتمثل في البحث عن التزام واضح بقبول ما تتمخض عنه عملية تفاوضية يصادق عليها بطريقة مناسبة :المجلس الوطني الفلسطيني وهو الهيئة المؤسسة لمنظمة التحرير، (أو ربما من خلال استفتاء شعبي). إذا تجنبت حماس مثل هذا التصريح أو وضعت شروط صعبة للانضمام لمنظمة التحرير فعندئذ لن تتطور أي مواقف تصالحية بأية طريقة حقيقية.

ماذا ربحت حماس؟

لقد حققت حماس نصراً ساحقاً في انتخابات 25 يناير 2006، وبذلك تكون قد هيمنت على البرلمان. ولكن ماذا يتيح ذلك لحماس؟ إن الانتخابات التشريعية الفلسطينية للعام 2006 تحمل كثير من سمات التحول الانتخابي الكلاسيكي: حزب حاكم يتعرض لضغوط داخلية وخارجية لتقديم تنازلات لبيرالية والموافقة على إجراء انتخابات يشعر فيها أنه قد يستطيع في وقت يسمح فيه للمعارضة بتحقيق نتائج محترمة، وبدلاً من التصويت لشخصيات نظام الحكم وجه الناخبون صفعة قاسية لهم وهزيمة ساحقة. هنا الانتقالية تعتمد على قبول القادة الحاليين بالهزيمة، وقبول المعارضة بالقواعد والأسس الديمقراطية، وتفادي إنشاء نظام استبدادي جديد.

قبلت فتح على نحو غير متوقع بالهزيمة التي حلت بها في الانتخابات التشريعية، وقد أبدت حماس احتراماً كبيراً للإطار الدستوري القائم، ولغاية الآن الانتقالية ناقصة. هناك بعض الخصوصيات الواضحة في الحالة الفلسطينية، فعلى سبيل المثال 10% من أعضاء المجلس التشريعي الجديد معتقلون داخل السجون الإسرائيلية وواحد في سجن تابع للسلطة الفلسطينية. بيد أن هناك قضايا أساسية أكثر أثارتها نتيجة الانتخابات.

أولاً، عند عكس كل الأنماط الشائعة للتحول السياسي، لا تكمن مشكلة حماس في قواعد اللعبة السياسية المحلية فحسب، بل في مشكلة الالتزامات التي قطعها نظام الحكم المهزوم على نفسه للعالم.

ثانياً، انتصار حماس في الانتخابات هو انتصار برلماني فقط والرئاسة تبقى بيد قائد من فتح.

تأسس البنيان الدستوري الفلسطيني نتيجة لسلسلة من الصراعات بين ممثلين غيروا أو أزيحوا من المشهد السياسي. هذا النظام الذي برز جزء منه نتيجة للمفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية الثنائية، ترسخ في القانون الأساسي الذي صاغه نواب المجلس التشريعي من فتح والمستقلين، ولأنه ينتزع بعض الصلاحيات الرئاسية لم يوافق ياسر عرفات على القانون الأساسي لغاية 2002، ولكن بعد ضغوطات شديدة داخلية ودولية صادق عليه.

في عام 2003، أدت الضغوطات المستمرة إلى سلسلة من التعديلات التي عززت من وضع البرلمان واستحدثت منصب رئيس الوزراء. النتيجة بشكل عام هي ظهور مشروع نظام رئاسي-برلماني. انتخب الرئيس بشكل مباشر ومع أن هناك بعض السلطات التنفيذية بيده، إلا أن أغلبها تبقى في يد مجلس الوزراء الذي يظل يخضع عمله لثقة البرلمان. المعنى الدقيق للاحكام الدستورية غير واضح وقد شهدت السنوات التي امتدت من عام 2003 ولغاية الآن، تناحرات بعضها علني وبعضها سري بين الرئيس ورئيس الوزراء والبرلمان.

ورغم أن هذه التركيبة الأساسية للمزيج الرئاسي-البرلماني شائع جداً بين الديمقراطيات الحديثة، إلا أن للقانون الأساسي الفلسطيني ملامح غير مألوفة أنتجتها صراعات سياسية ماضية، فقد أصر عرفات، ونجح في ذلك، على وجوب إدخال فقرة تنص على منح الرئيس صلاحيات عزل رئيس الوزراء، وهناك شذوذيات يبدو أنها تعكس أخطاء ارتكبها واضعو مسودة القانون، لا توجد فقرة تنص على إجراء انتخابات مبكرة، وما لم يتم تغيير الدستور سيظل البرلمان الذي تهيمن عليه حركة حماس حتى 2010 (تحرك البرلمان المنتهية ولايته في آخر أيامه لتغيير هذه الفقرة وإتاحة إجراء انتخابات مبكرة بيد أنه لم يحصل على عدد النواب المطلوب للتصويت)

كما هو معروف في أي نظام دستوري يغير معنى النص من وقت لآخر حسب أفعال وقوة اللاعبين السياسيين. ومع أن الفلسطينيين لم يعهدوا نظام (التعايش) الذي يكون فيه الرئيس ورئيس الوزراء من حزبين متنافسين، فقد تتيح التركيبة الدستورية القائمة تشكيل برلمان متناسق وصاحب قرار ينزع من الرئيس أغلب صلاحياته. هناك أسباب كثيرة تدعو إلى الاعتقاد بأن برلمان حماس سيعمل بضوابط أكثر.

 السبب الأول، علاقات حماس البسيطة بلاعبين دوليين بارزين كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وهذه العلاقات يقوم بها الرئيس.

السبب الثاني، هناك مجالات تفضل حماس أن لا تنخرط فيها ولاسيما العلاقات مع إسرائيل.

السبب الثالث، لحماس حدود دستورية فهي تستطيع أن تكتب ما تشاء، لكنها لا تملك الأغلبية الكافية للتصدي لفيتو الرئيس أو تعديل القانون الأساسي.

الواقع هو أن حماس على دراية تامة وبما فيه الكفاية بأغلبيتها البرلمانية لدرجة أنها تسعى لدفع أحزاب أخرى باتجاه الحكومة. ورغم أن هذه الجهود حتى كتابة هذه السطور لم تتكلل بالنجاح، إلا أن خيار تكنوقراط وشخصيات وطنية مستقلة يبدو خياراً حياً. لذلك لا ينبغي أن يتوقع المرء أن تحكم فلسطين فوراً من البرلمان بل بذل جهود لتحديد بعض الأولويات الواضحة وترك شؤون حكم أخرى لبعض الأحزاب.

إلى جانب مشاكل الرئاسة نفسها، هناك حقيقة مؤسسات فلسطينية هامة قد تكون عقبة أمام هيمنة حماس السياسية وهي:

الأجهزة الأمنية

في عام 2002 و2003، وهي فترة الإصلاح، عمل المصلحون والداعمون الدوليون لهم على تعزيز شأن الأجهزة الأمنية ووضعها تحت إشراف مجلس الوزراء وليس تحت تصرف الرئيس. هذه المحاولة كانت ناجحة بيد أنها  محدودة نوعاً ما لأن ياسر عرفات استطاع إيجاد سبل الاستمرار في ممارسة نفوذه على الأجهزة الأمنية من خلال الرئاسة. والواقع أن تعديل القانون الأساسي كان مبهماً تماماً فهو يجعل الرئيس قائداً لجميع الأجهزة الأمنية مع الإصرار في نفس الوقت على إخضاع الامن الداخلي لولاية رئاسة الوزراء. كثيراً ما يختلف الرئيس مع رئيس الوزراء حول قضايا القيادة والسيطرة مع أن التشريع الخاص بذلك كان مكتوباً. أقر اغلب التشريع في العام الماضي من قبل البرلمان المنصرف بيد أنه لم يوضح الأمور أبداً.

يمنح التشريع الرئيس صلاحية التعيين ويلحق جهاز المخابرات العامة بالرئاسة مباشرة، لكنه لم يبعد مجلس الوزراء عن الشؤون الأمنية. ونظراً لأنه تشريع عادي، يستطيع البرلمان الذي تهيمن عليه حماس إعادة صياغة التشريع بما يتناسب مع أهواءها. حماس لن تتحرك بكل نشاط وحيوية في مجال إصلاح الأجهزة الأمنية، لأن هذه الاجهزة حزبية محضة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأجنحة عديدة في فتح. ورغم أنها تستطيع في بعض الأحيان أن تعمل بطريقة مهنية عالية (كما حدث يوم الانتخابات) فهي من ناحية أخرى، قد تعمل كلوبي لمصالحها الخاصة، ومليشيا لأغراض من يقومون عليها، وحماية أشخاص بالتهديد والابتزاز.

إذا استطاعت السلطة الفلسطينية تسديد فاتورة الرواتب، فعندئذ تستطيع حماس، وهي تمتلك الأدوات لإصلاح الأجهزة الأمنية أن تقوم بذلك، ولكن هذه الخطوة ستسير ببطء شديد. إذا عجزت حماس عن تسديد فاتورة الرواتب فحينئذ ستشكل الأجهزة الأمنية مصدر عدم استقرار وتشعل العنف داخل المجتمع الفلسطيني.

القضاء

مع أن قدرة القضاء  الفلسطيني قدرة ضعيفة فهو وللعجب يتمتع باستقلالية قوية. لقد ضغط الإصلاحيون الفلسطينيون بقوة وثبات من اجل إنشاء إطار قانوني لنظام قضائي مستقل. استطاعوا أن يفرضوا على الرئيس عرفات قانونا مع أن الكثير يشعر الآن بالأسف نحو هذا المدى من الانتصار. التشريع يؤسس مجلساً قضائياً منفصلاً عن الفرعين الحكوميين الآخرين ليدخل هذا المجلس في عداء مع البرلمان ووزارة العدل حول  كل  الأمور المتعلقة بإدارة وهيكلية القضاء.

صوت البرلمان أخيراً على مراجعة القانون لكبح جماح ما يعتبره مجلس قضائي هارب بسرعة، لكن القضاء رد بالإعلان بأن هذا القانون غير دستوري. وعندما خول البرلمان المنصرم مراجعة القانون الأساسي لإفساح المجال أمام الإصلاح، وجد أنه لا يستطيع الحصول على عدد النواب الكافي، وبذلك يكون البرلمان المنصرم قد تنازل لخلفه الذي تسيطر عليه حماس عن نظامٍ قضائي مستقل غاية الاستقلال أبدى في يوم من الأيام رغبة شديدة في معالجة شؤون سياسية حساسة.

وسائل الإعلام

من المحتمل جداً أن يتم إعادة تشكيل وسائل الإعلام الفلسطينية بعد فوز حماس بيد أن هذه العملية ستكون بطيئة ومتقطعة. الإذاعة والتلفزيون تخضع لسلطة مجلس الوزراء، ومن المتوقع أن تعكس على نحو سريع توجهات الحكومة الجديدة. أما بالنسبة للإذاعات الخاصة فهي مرخصة، ولكن يصعب السيطرة عليها، وابسط دليل على ذلك قرار إغلاق إذاعة حماس الجديدة قبيل الانتخابات، والصحف قد تتغير أيضا ببطء. هناك صحيفتان من الصحف اليومية ذات ملكية خاصة لكنهما تعتاشان في حقيقة الأمر على عقود طباعة واعلانات حكومية، ومن المحتمل أن تبديان اهتماماً أكثر بحماس، وهي الحركة التي تجاهلتها هذه الصحف أحيانا في الماضي. في هذه المجالات وغيرها قد تجد حماس أن نفوذها السياسي الجديد سيتيح لها ثني بعض المؤسسات القائمة، ولكن من غير المحتمل أن تمارس نفوذها مباشرة.

الخيارات الغربية

لاشك أن فرص دمج النظام السياسي بقيادة حماس، دمجاً ناجحاً ضمن النظام الإقليمي، تبدو غير ساطعة ولكن الفشل لا يبدو أيضاً حتمي، المخاطر عالية جداً ليس بالنسبة للفلسطينيين فحسب بل للإسرائيليين والدول المجاورة والحركات الإسلامية الإقليمية.

في الوقت الذي يناضل فيه الأمريكيون والأوروبيون لصياغة رد مشترك على فوز حماس، نجد أن هؤلاء توقفوا قليلاً عن رفض استيعاب هذه الحركة، وفي المقابل ابدوا ميولاً قوية نحو اشتراط تقديم الدعم والمساعدات بتغيرات أساسية في توجهات هذه الحركة الإسلامية المنتصرة. الاشتراطية قد تجبر حماس على مواجهة خيارات صعبة ولكن إذا مورست بطريقة دراماتيكية وصارمة فسترتد على أمريكا وأوروبا وستقيدهما بسياسات يصعب حينها التملص منها، إذا حصل وسحبت الدول المانحة دعمها المالي للسلطة الفلسطينية بزعامة حماس فعندئذ نتائج كثيرة سيئة ستبرز، ستواجه الضفة الغربية وغزة انهياراً اقتصادياً يؤدي إلى كارثة إنسانية، وسيصاحب ذلك انهياراً للسلطة الفلسطينية يؤدي بدوره إلى حالة أشبه ما يكون بالحرب مع إسرائيل. الإسلاميون في المنطقة الذين تجادلوا مع زملائهم لصالح النهج الديمقراطي سيجدون أنفسهم عاجزين عن الإجابة على التهمة القائلة بأن المجتمع الدولي لن يقبل بوجود إسلاميين في السلطة. وعلى النقيض من ذلك تستطيع حماس أن تقاوم الانهيار المالي عن طريق الالتفات نحو إيران والسعودية، وهو خط لن يخدم لا الولايات المتحدة ولا إسرائيل. وتفادياً لمثل هذه النتائج يكون من الأفضل استيعاب حكومة بزعامة حماس، ولكن أيحصل ذلك؟ أم أن أجندة الحركة في غاية الراديكالية؟ هنا يصعب جداً التفاؤل: ترفض حماس رفضاً باتاً فكرة الحل على أساس دولتين وتحتفظ بحق المقاومة، وتعريف الحركة للمقاومة يتضمن عمليات فظيعة على أهداف مدنية. بناء على ذلك وضع الأوروبيون والأمريكيون حماس أمام تحدي، عليها أن تعترف بإسرائيل وتنبذ العنف. وبالرغم من أن هذه الفكرة عالية في نبرتها إلا أن هذه الاشتراطية لابد أن يصاحبها تفكير متأني في المعايير والإشارات.

أي توجه نحو ترسيخ الشروط بطريقة صارخة ومشاكسة ستؤتي ثماراً عكسية. فحماس حركة تفتخر بمبادئها ومن غير المحتمل أن تتخلى عنها بسهولة. وحتى لو رغب قادتها في تحويل المواقف فإن هيكلية صنع القرار، القائمة على الهيكلية المؤسساتية والمملة جداً، سيجعل من ذلك أمراً في غاية الصعوبة. لذلك فان أي تغيير في مواقف الحركة سيكون تدريجياً.

الولايات المتحدة وأوروبا ليستا وحدهما الراغبتين في مغازلة حماس لتكون اقل صرامة نحو إسرائيل. الحركة حساسة جداً بالنسبة للرأي العام الفلسطيني وتعترف بأن أغلبية الناخبين يؤيدون فعلاً الحل على أساس دولتين. ولهذا السبب تجنبت حماس في دعايتها الانتخابية أي تطرق لموقفها المتشدد. هناك تيارات إسلامية رئيسية في المنطقة التي تنظر لفلسطين كحالة اختبار قد لا تنتقد، بل على العكس قد تبتهج، بتعديل موقف حماس فيما لو برهنت الحركة على أن بوسع الإسلاميين الحكم على خير وجه.

إذا لم يطلب من حماس التخلي عن مواقفها عشية ليلةً أو ضحاها، إذن ما هي المعايير التي قد تستخدم للحكم على اعتدالها ؟ ما هو نمط الخطوات التي قد تطمئن إسرائيل بإمكانية تأسيس عملية تفاوضية حيوية، رغم انتصار حماس؟

المطلب الأمريكي-الأوروبي بأن تعترف حماس بإسرائيل يمكن أن يتحول إلى معادلات عملية مختلفة لمح اليها بعض قادة حماس وقد تكون مقبولة. على سبيل المثال قد تترك حماس محمود عباس يتفاوض كيفما يشاء ولكن أي اتفاق يتمخض عن هذه المفاوضات لابد من طرحه للاستفتاء الشعبي. أو قد تترك حماس منظمة التحرير تساوم إسرائيل ولكن لابد أن يخضع أي اتفاق نهائي لمصادقة الهيئة التي تشرف على منظمة التحرير وهي المجلس الوطني الفلسطيني.

حماس أيضاً قد تتعرض لضغوط لتقبل بقرارات الجامعة العربية التي تؤيد بوضوح فكرة الحل على أساس دولتين. مثل هذه المعادلات ستتيح لحماس التمسك بمواقفها مع الخضوع في نفس الوقت للواقع السياسي.

ليس هناك من توجه من هذه التوجهات مضمون النجاح, الواقع أن احتمال الفشل وارد. في الأيام الأولى التي تلت النصر الانتخابي، أبدت حماس إشارات قليلة على إمكانية أن تنظر في التزاماتها الإيديولوجية، ولكن هناك وقت كثير للتعامل مع تداعيات الفشل. مهمة الحالية تكمن في إقناع الأطراف المختلفة بتجنب انغماسها بشكل عميق في مواقف قد تندم عليها فيما بعد. إذا أريد لفرص الديمقراطية العربية والحركات السياسية الإسلامية الديمقراطية والسلام الفلسطيني-الإسرائيلي أن تنجو من الانتصار الساحق لحماس فلابد أن يكون الدليل عن طريق العلامات المفصلة تفصيلاً دقيقاً، وليس الشعارات المتشددة.


(*) باحث في معهد (Carnegie Endowment for International Peace)

     www.carnegieendowment.org

 


الصفحة الرئيسية | مجلة المركز | نشرة الأحداث الفلسطينية | إصدارات أخرى | الاتصال بنا


إذا كان لديك استفسار أو سؤال اتصل بـ [البريد الإلكتروني الخاص بمركز التخطيط الفلسطيني].
التحديث الأخير:
03/05/2006 10:20 ص