اليسار الإسرائيلي .. سبات أم أفول

عاطف المسلمي

خلال العقد الأخير، وبعد إنعقاد مؤتمر مدريد  في أكتوبر 1991 تحديداً، أضحى من الصعوبة بمكان تحديد الألوان السياسية الحزبية في إسرائيل. فإذا كان المعيار الرئيسي لهذا التحديد هو البرامج السياسية للأحزاب الإسرائيلية وبنودها الخاصة بالسلام مع الفلسطينيين، فإن تداخلات وتحولات كثيرة قد طرأت على هذه البرامج مما أضاف صعوبة أخرى على هذا التحديد، حيث رأينا خلال المعركتين الإنتخابيتين الأخيرتين للكنيست (مايو 1996، مايو 1999) نزوحاً كبيراً لهذه البرامج نحو وسط الساحة الحزبية السياسية، سواءً من قِبل أحزاب اليمين بزعامة  الليكود، الرافعة للواء عدم التنازل عن أجزاء من أرض إسرائيل الكبرى، أو من أحزاب اليسار بزعامة العمل التي تتبنى بدرجات متفاوتة خيار دولتين لشعبين في حدود متعارف عليها. وقد عاشت الساحة السياسية في إسرائيل ما نسميه بلعبة الكراسي الموسيقية. ففي العام 1992 عاد حزب العمل ومعسكر اليسار ليحكم إسرائيل فيما يشبه الإنقلاب السياسي بعد 15 عاماً من حكم اليمين، فيما بدا حينه أنها عودة ستطول. ثم ما لبث اليمين أن إنتزع منه الحكم في إنتخابات 1996، ثم عاد  اليسار إليه ثانيةً في إنتخابات 1999 بزعامة باراك، فيما إعتبرته الأوساط الإسرائيلية في حينه فرصة تاريخية للتوصل إلى حل تاريخي ينهي الصراع مع الفلسطينيين في ظل تأييد كبير لمثل هذا الحل داخل الشارع الإسرائيلي.

ومنذ إندلاع الإنتفاضة في الأراضي الفلسطينية (نهاية سبتمبر 2000)، وحتى كتابة هذا التقرير، سُجل غياب شبه تام لمعسكر اليسار الإسرائيلي، الأمر الذي دفع الكثير من المحللين السياسيين إلى التساؤل عن ماهية الأسباب الكامنة وراء هذا الغياب، والمدة المرشحة لإستمرار هذا الغياب، فيما ذهب البعض منهم إلى أبعد من ذلك وتنبأ بنهاية اليسار الإسرائيلي أو ما يعرف بمعسكر السلام.

مفهوم اليسار وقوى السلام الإسرائيلية

هناك مصطلح في السياسة الحزبية الإسرائيلية يعرف بمعسكر اليسار الذي يتزعمه حزب العمل ويضم بين جنباته حزب ميرتس، كحزبين مركزيين، بالإضافة للأحزاب العمالية الصغيرة التي تنشأ وتختفي خلال فترات الكنيست المتعاقبة، والأحزاب العربية-اليهودية المشتركة والأحزاب العربية الصرفة. يعادل هذا المعسكر في الساحة الإسرائيلية القطب الآخر المسمى بمعسكر اليمين الذي يتزعمه الليكود ويضم بين جنباته الأحزاب اليمينية الصغيرة والأحزاب الدينية. وجذور معسكر اليسار التي إنبعثت منذ قيام دولة إسرائيل تتشابه إلى حد كبير، سواء في البنى التنظيمية أو المبادئ الإجتماعية والإقتصادية التي بُنيت عليها برامجها، بدءاً من فترة الإستيطان حتى الآن. إلا أنها ليست كذلك في القضايا السياسية، حيث تبرز الإختلافات والتباينات الشديدة تجاه القضايا السياسية وبخاصة السلام مع الفلسطينيين، حيث لا ينظر إلى معسكر اليسار ككتلة واحدة في هذا الجانب، فهناك اليسار التقليدي وتمثله حركة ميرتس، وهناك يسار الوسط ويمثله حزب العمل، ويسار اليسار وتمثله قوى السلام والأحزاب العربية. وفي هذا السياق لابد هنا من التمييز بين نوعين من اليسار الإسرائيلي صاحبا نشأة دولة إسرائيل، النوع الأول: هو اليسار الصهيوني الذي مثله حزب (المبام)، وذلك قبل إتحاده مع العمل في السبعينيات ويمثله الآن حزب العمل وميرتس والأحزاب اليسارية الأخرى. والنوع الثاني: اليسار اللا صهيوني، وتزعمه الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي يعتبر الصهيونية حركة إستعمارية، وقد نادى هذا الحزب منذ البداية بتطبيق قرارات الأمم المتحدة، وبخاصة قرار التقسيم الذي نص على إقامة دولتين في فلسطين، دولة عربية وأخرى يهودية. وقد إستمر هذا الحزب متمسكاً بموقفه حتى النهاية.

ويتداخل لدى البعض مفهوم اليسار مع مصطلح قوى السلام، فمفهوم اليسار هو أشمل، حيث تعتبر قوى السلام إحدى مكونات معسكر اليسار وتصنف بيسار اليسار وفق المعيار الرئيسي للتصنيف، الذي ذكرناه آنفاً وهو الموقف من مصير الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967. فمن ينادي بإعادة هذه المناطق كاملة إلى السيادة الفلسطينية وعدم الإحتفاظ بها أو ضمها إلى إسرائيل مقابل السلام ينطبق عليه تحديد قوى السلام وهي يسار اليسار. وما يزيد من صعوبة تحديد قوى السلام في إسرائيل حسب هذا المفهوم هو مفهوم السلام لدى القوى والأحزاب الإسرائيلية. فمن المعروف أن قادة إسرائيل منذ إحتلال أراض العربية في يونيو 1967 حتى الآن، ينادون بتحقيق السلام مع العرب في الوقت الذي يمارسون فيه أعمالاً عدوانية ضد سكان الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، يستوي في ذلك قادة العمل مع قادة الليكود. وما زاد من صعوبة هذا التحديد، أن حزب الليكود اليميني بزعامة مناحيم بيغن، كان أول من وقع إتفاق سلام مع دولة عربية وإنسحب من أراضي عربية أُحتلت في العام 1967، وهو ما لم يفعله حزب العمل زعيم معسكر السلام. ولكن الحال بالنسبة للأراضي الفلسطينية (محور الصراع الرئيسي)، يختلف عنه في الأراضي العربية. فإعتماد معيار "مفهوم السلام مع الفلسطينيين" يستبعد دون جدال من معسكر السلام أو يسار اليسار، مجموعة كبيرة من القوى الصهيونية، تبدأ من أقصى يمين الساحة الحزبية الإسرائيلية وتنتهي بصقور حزب العمل، وهي القوى التي عبرت بشكل أو بآخر عن الرغبة في الإحتفاظ بالأراضي الفلسطينية المحتلة مهما إختلفت المشاريع والأطروحات التي تطرح لهذه الأراضي، مثل الحكم الذاتي، أو الإدارة المدنية، أو الضم الفوري(1).

أما إذا إعتمدنا معياراً آخر أكثر إقتراباً من جوهر المسألة، بإعتبار أن تحقيق السلام لا يتم إلا بتجسيد طموحات الشعب الفلسطيني في إقامة دولة ذات سيادة كاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وجدنا أن قوى السلام هذه قد تتقلص أكثر فأكثر لتنحصر في بعض الأحزاب والتنظيمات الصغيرة، بالإضافة إلى شخصيات هامشية في حزب العمل وبعض القوى الليبرالية، دون أن يكون لهذه العناصر تأثيرٌ كبير في أحزابها.

 (الشكل " يوضح الخارطة الحزبية الإسرائيلية في الكنيست الحالية مصنفة حسب مواقعها السياسية")

                                            كتل اليسار

يسار الوسط

اليسار التقليدي

يسار اليسار ويشتمل على:

حزب العمل يشغل في الكنيست الحالية 23 مقعداً(34 في الكنيست السابقة)

حركة ميرتس تشغل في الكنيست الحالية10 مقاعد، وهي نفس مقاعدها في الكنيست السابقة

1-حداش 3مقاعد (5مقاعد في الكنيست السابقة)

2-القائمة العربية الموحدة5 مقاعد (4مقاعد في الكنيست السابقة)

3-التجمع الوطني الديمقراطي مقعدان

4-شعب واحد مقعدان

 

                                            كتل اليمين

اليمين الوطني

اليمين الوطني الديني

اليمين الديني

ويشمل:

1-الليكود 19 مقعداً(14 مقعدا في الكنيست السابقة، بالإشتراك مع جيشر وتسومت)

2-الإتحاد القومي 4 مقاعد

3-إسرائيل بيتنا 4 مقاعد

4-جيشر 3مقاعد(إنفصل عن كتلة إسرائيل واحدة التي جمعته وحزب العمل وحركة ميمياد)

ويشمل:

1-المفدال 5 مقاعد
(9 مقاعد في الكنيست السابقة)

ويشمل:

1-شاس 17 مقعداً (10 مقاعد في الكنيست السابقة)

2-التوراة الموحدة 5 مقاعد (4 في الكنيست السابقة)

 

                                        أحزاب الوسط

المركز 6 مقاعد

شينوي 6 مقاعد

إسرائيل بعلياه 6 مقاعد(7 في الكنيست السابقة)

 

1-نشأة قوى السلام:

دخل مصطلح قوى السلام إلى الحياة السياسية الإسرائيلية، بعد حرب أكتوبر (1973)، والإنتكاسة التي أصابت إسرائيل في تلك الحرب نتيجة للثمن الباهظ من القتلى الذي دفعته الدولة في تلك الحرب، وإن كانت سجلت بعض ملامحها في أعقاب حرب يونيو 1967، حيث أدى إستحواذ إسرائيل على أراضي عربية واسعة إلى طرح فكرة إمكانية تحقيق السلام مع العرب بالمساومة على هذه الأراضي أو جزء منها، مقابل الإعتراف بوجود إسرائيل وإنهاء حالة الحرب وإبرام معاهدات سلام بين إسرائيل والعالم العربي. كما دخل القاموس السياسي الإسرائيلي في تلك الفترة مصطلح آخر هو (الحمائم والصقور). فقد إنتشر هذا المصطلح كثيراً في الكتابات الصحفية الإسرائيلية والأجنبية على حدٍ سواء، التي تحدثت عن الإتجاهات السياسية فيما يتعلق بتصوراتها للحل مع العرب والفلسطينيين، وذلك بهدف التمييز بين فئتين من رجال الفكر والسياسة، "فئة حمائمية" تدعو إلى السلام مع العرب على أساس التخلي عن كل أو أجزاء من الأراضي العربية (يدور الحديث الآن عن الأراضي الفلسطينية). في حين أن الفئة الأخرى "الصقرية" تدعو إلى الإحتفاظ بجميع الأراضي وعدم الإلتفات إلى تحقيق السلام مع العرب بما فيهم الفلسطينيين، لأنه ببساطة غير ممكن، أو بقبول سلام الأمر الواقع الذي يؤدي إلى إعتراف العرب وإستسلامهم لقوة إسرائيل وأهدافها الصهيونية.

ويمتد تقسيم الحمائم والصقور ليطال جميع الأحزاب والقوى السياسية داخل إسرائيل، كما أن تعبير الحمائم أصبح يرادف إلى حدٍ ما تعبير "قوى السلام"، وهذا يعني أن قوى السلام الإسرائيلية توجد في غالبية الأحزاب الإسرائيلية، ولا تقتصر على حزب سياسي بعينه، وهي ليست منسجمة ولا يشملها إطار فكري أو نظامي واحد.

2-حرب لبنان بداية الظهور الفعلي لمعسكر السلام:

بعد خمس سنوات من حكم اليمين المتطرف بزعامة مناحيم بيغن، وإنزواء ما يُعرف باليسار الإسرائيلي، سُجل أول نشاط فعلي لمعسكر السلام، وذلك خلال الغزو الإسرائيلي للبنان، حيث إنطلقت في تل أبيب مظاهرة (الأربعمائة ألف شخص)، وظهرت مجموعة من الضباط إتخذت لنفسها إطار (مجلس السلام والأمن) الذي إنتسب إليه مئات الضباط الذين يرون أن السلام وحده يحقق الأمن وليست الأرض في عصر الصواريخ عابرة القارات. وظهرت حركة السلام الآن، التي حاولت أن تكون إطاراً فضفاضاً للباحثين عن السلام، مبتعدة عن تحديد مواقف سياسية محددة، إلا أنها طورت مواقفها في نهاية الأمر وأخذت تطالب بالإعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، (كان ذلك قبل أوسلو بعدة سنوات) وبحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، غير أنها رفضت تشكيل قائمة لخوض إنتخابات الكنيست (1984) مكتفية بسياسة الإحتجاج  وبتطوير تلك السياسات(2).

إلا أن الأمور تغيرت مع إنطلاق الإنتفاضة الأولى (ديسمبر 1987) وإستمرارها طوال سبع سنوات، حيث ساهمت في تعزيز الإستقطاب في الشارع الإسرائيلي، وبدأ الإتجاه نحو اليمين يتبلور بوضوح من خلال ميلاد أحزاب يمينية متطرفة جداً (هتحيا، موليدت، تسومت)، كما أن الإتجاه نحو اليسار بدأ أكثر وضوحاً في النصف الآخر من المجتمع الإسرائيلي، حيث إزدادت بشكلٍ ملحوظ المجموعات الإسرائيلية الإحتجاجية على سياسات العنف والتنكيل، بدءاً من لجان التضامن مع طلاب بيرزيت، إلى تنظيم ييش قفول (هناك حدود) وكفى إحتلال، وإنتهاءاً بنسوة في ثياب الحداد.

في إنتخابات عام 1988 ظهرت قوائم جديدة من اليسار الصهيوني، إذ حصل ( المبام) بعد إنشقاقه عن المعراخ على ثلاثة مقاعد، فيما حصلت كتلة حقوق المواطن (راتس) بزعامة شولاميت ألوني على خمسة مقاعد بزيادة مقعدين عن كنيست 1984. أما حركة شنيوي (التغيير) بزعامة (أمنون روبنشتاين) فقد حصلت على مقعدين فقط. وقد تغيرت الصورة في إنتخابات عام 1992، حيث تحالفت هذه الكتل الثلاث لتنتج ما يعرف اليوم بكتلة ميرتس، حيث حصلت في تلك الإنتخابات على 12 مقعداً، وكانت القوة الثالثة في الكنيست، عاكسة بوضوح الحد الذي وصلت إليه حالة الإستقطاب في الشارع الإسرائيلي، حيث إختفت في تلك الكنيست قوائم الوسط وباتت تتشكل من كتل يسارية وكتل يمينية، وما كان لحزب العمل بزعامة إسحق رابين أن يستعيد قوته ويفوز في الإنتخابات إلا بعد أن حسم تردده وغادر موقع الوسط الذي تمترس فيها طويلاً، وأصبح الحزب منذ ذلك الحين وحتى سقوطه في إنتخابات رئاسة الحكومة (فبراير 2001) زعيماً فعلياً لمعسكر اليسار.

إلى جانب اليسار أو قوى السلام الحزبية ظهر عددٌ كبير من قوى السلام غير الحزبية، قبل وبعد أوسلو شكلت جميعاً ما يُعرف اليوم بمعسكر السلام الإسرائيلي، وهي قوى ومجموعات برلمانية وغير برلمانية تصنف على أنها تنتمي إلى اليسار، أهمها حزب ميرتس وبعض أعضاء حزب العمل الذين رفضوا إنضمام الحزب إلى حكومة شارون، وحركة السلام الآن، وحركة نيتفوت معلوم، عوز هشلوم، ومعهد النقب للسلام والتطوير، صندوق التعاون الإقتصادي، جفعات حبيبة، التحالف الدولي للسلام الإسرائيلي-العربي (مجموعة كوبنهاجن) ومفعال هوريم، والفرع الإسرائيلي لجمعية أطفال الشرق الأوسط، وجمعية رعوت (صداقة) وكلية آدم، ومشروع شعب الشعب، وراعش (حركة السلام الطلابية)، وكتلة السلام (غوش هشلوم) ومركز بيرس للسلام، والمركز الفلسطيني-الإسرائيلي في كيدم شلوم، وحركة غوسيم شلوم، ومجموعة عاملون إجتماعيون للسلام والرفاه، و(بيناه) مركز الهوية اليهودية والثقافة الإسرائيلية في سينمار إفعال، وفورم هميديا الإسرائيلي- الفلسطيني، وجمعية المبادرة الإسرائيلية وجمعية أبناء إبراهيم. وجمعية التربية في إسرائيل، ومجلس الأديان في إسرائيل، والمركز اليهودي- العربي للتطوير الإقتصادي، وجماعة المؤرخين الجدد، وفي مقدمتهم البروفيسور باروخ كيمرلينغ، وران كوهين، والأديب ديفيد غروسمان، والأديب أ.ب يهوشوع وآخرون. وأضيف إلى هذه القوى في الفترة الأخيرة حركة هناك حدود، وحركة القوى التعاونية (كيبوتسات) ومنظمة شجاعة الرفض (حركة الإحتياطيين الرافضين الخدمة في الأراضي الفلسطينية) التي إرتفع عدد أعضاؤها في الآونة الأخيرة إلى (443) وهو يزداد بإستمرار على أساس وثيقتها المنشورة التي إعتبرت الحرب على الفلسطينيين قتالاً من أجل المستوطنات، إضافة إلى عددٍ من أساتذة الجامعات والصحافيين والفنانين في مقدمتهم الفنانة الأكثر شعبية في إسرائيل (يافا ياركوني) التي ألغت مؤخراً جمعية فناني إسرائيل حفلاً تكريمياً لها بإيعاز من الحكومة. والصحافيين في هآرتس عميرة هاس، وجدعون ليفي اللذين يتعرضان لحملة تشهير واسعة لمجرد قيامهما بنشر مقالات تكشف ممارسات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية(3).

 إنتخابات 1992 حددت الخط السياسي لليسار الحزبي

إذا كانت إنتخابات الكنيست 1984 و1988، قد كشفت بجلاء عن مظاهر الإستقطاب السياسي في الشارع الإسرائيلي، فإن إنتخابات عام 1992 قد رسَّخت بنتائجها هذه الظاهرة، حيث إنقسمت الكنيست ومعها الشارع الإسرائيلي بالتساوي 61 عضواً لليسار مقابل 59 عضواً لليمين. وقد حددت نتائج هذه الإنتخابات بوضوح خط السير القادم لمعسكر اليسار الذي خطا خطوة صغيرة إلى الأمام في برامجه السياسية، كانت بمثابة التمهيد للتوصل إلى إتفاق أوسلو. فبإطلالة سريعة على البرنامج السياسي الإنتخابي لأحزاب اليسار في العام 1992، نرى التطور الذي طرأ على موقف هذه الأحزاب وبخاصة حزب العمل تجاه السلام مع الفلسطينيين، ففي البند الخاص بالسلام مع الفلسطينيين نص برنامج حزب العمل الذي مثل حتى ذلك الوقت يسار الوسط على:

ستدعم إسرائيل المفاوضات الآيلة إلى إتفاق سلام يقوم على حلٍ وسط مع الأردن والفلسطينيين، ويتعين أن يستند الإتفاق على حاجات إسرائيل الأمنية وقراري الأمم المتحدة رقم 242 و338 والإعتراف بحقوق الفلسطينيين، بما في ذلك حقوقهم الوطنية وعلى أساس مشاركتهم في تقرير مستقبلهم.

وتمهيدا لإحتمال التفاوض مع م.ت.ف، رفع برنامج حزب العمل بشكل مبطن الحظر المفروض على اللقاءات مع شخصيات (م.ت.ف). فقد ورد في مقدمة الفصل السياسي للبرنامج أنه:إنسجاماً مع تطلع حزب العمل إلى وضع حدٍ للنزاع الإسرائيلي-العربي، والتوصل إلى حل للمشكلة الفلسطينية، فإن حزب العمل على إستعداد للتحاور مع شخصيات وجهات فلسطينية تعترف بإسرائيل وترفض الإرهاب وتوافق على قراري مجلس الأمن رقم 242 و338. كما سيعمل حزب العمل على تعديل مرسوم الإرهاب المتعلق بحظر اللقاءات مع منظمات إرهابية بحيث تطبق عقوبة اللقاءات فقط على من يمس بأمن الدولة أو ينوي المس به(4).

في هذا البرنامج لم يتم التطرق إلى الوضع النهائي للمناطق التي ستقوم إسرائيل بالإنسحاب منها، حيث أشار البرنامج إلى أنه "ستقرر في هذه المفاوضات الحدود الدائمة والترتيبات السياسية والأمنية في المناطق التي ستجلو إسرائيل عنها ومجال التعاون مع إسرائيل". ونص البرنامج أيضاً على أن الواقع السياسي في المنطقة والحاجة إلى حل مشكلة اللاجئين وحاجات إسرائيل الأمنية تستوجب إتفاقاً على إطار أردني فلسطيني يكون على إستعداد لتعاون واسع النطاق مع إسرائيل وليس دولة فلسطينية منفصلة غربي نهر الأردن.

كان البرنامج السياسي لحزب ميرتس الذي يمثل اليسار التقليدي، متقدماً خطوات عن حزب العمل وجاء فيه: الإعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإحترام حق الشعب الفلسطيني في تقرير شكل هذا الحق سواءً إختار إطاراً فدرالياً أو كونفدرالياً مع الأردن، أو إختار دولة فلسطينية مستقلة مع الإشارة إلى أنه نظراً إلى إعتبارات أمنية وديمغرافية فإن من الأفضل أن يكون الشكل ذا طابع كونفدرالي:

-   عدم معارضة مشاركة م.ت.ف، في المراحل المقبلة من مفاوضات السلام بعد أن تعترف بإسرائيل وتوقف الإرهاب.

-   عدم تقسيم القدس مع الأخذ بعين الإعتبار في الوضع الدائم سيقرر جميع الروابط الخاصة المتصلة بالمدينة، الدينية والقومية.

-   إيقاف الإستيطان فوراً والإمتناع عن إنشاء مستوطنات جديدة(5).

أما البرنامج السياسي للجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة "حداش"، التي تمثل يسار اليسار وهي ممثلة الآن بثلاثة مقاعد، فلم يطرأ عليه تغيُّر يُذكر منذ إنشائها عام 1977 حتى يومنا هذا وهو يتضمن:

-   إنسحاب إسرائيل من جميع المناطق المحتلة عام 1967، على أن تكون خطوط 4 يونيو حدود السلام المعترف بها بين إسرائيل والدول العربية.

-   الإعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

-   تسوية عادلة لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وذلك وفقاً لقرارات الأمم المتحدة التي تعترف فيها بحقهم في الإختيار بين العودة إلى وطنهم أو قبول التعويضات.

-   في إطار تسوية سلمية يُعترف بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل والقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة، وهناك مجال لتسويات يتفق عليها تضمن التعاون بين العاصمتين في المجال الإجتماعي والوصول الحر إلى الأماكن المقدسة وحرية الحركة بين شطري المدينة.

أوسلو واليسار

بتوقيع إتفاق أوسلو، شعر اليسار الإسرائيلي أخيراً أنه وصل إلى مبتغاه، وأن الراية قد سُلِّمت الآن إلى أيدٍ أمينة، ونسي أو تناسى أنه بات عليه أن يناضل كي يطبق هذا الإتفاق على الأرض بشكل سليم لا أن يبقى حبراً على ورق في ظل حكومة يقودها رئيس وزراء صقري (إسحق رابين) سُحب متوجساً إلى أوسلو، وفي ظل هجوم يميني شرس على الإتفاق كان المستوطنون رأس حربته، وعمليات تفجيرية فلسطينية داخل إسرائيل أثارت نقمة الشارع الإسرائيلي عليه، وصبت في معظمها في تعزيز مواقف اليمين وصعبت على الحكومة وعلى معسكر السلام مواجهة هجمة اليمين الشرسة، وتسويق السلام مع الفلسطينيين للجمهور الإسرائيلي الذي أصيب بشيء من البلبلة، بسبب تصرفات حكومته التي وقعت على إتفاق سلام مع الفلسطينيين، وهي تضم ممثل معسكر السلام (حركة ميرتس) وفي الوقت ذاته تحاول إسترضاء اليمين عن طريق الموافقة على توسيع مستوطنات قائمة في الضفة الغربية، ورفض تطبيق الفصل بمعناه الحقيقي مع الفلسطينيين أي إخلاء المستوطنات، مع إدراكها الشديد بأنها تذبح الإتفاق الذي وقعت عليه. هذا كله مصحوباً بعجز شبه تام من حركة ميرتس للتأثير من داخل الحكومة يصاحبه عجز تام لمعسكر السلام للتأثير من خارج الحكومة، الأمر الذي دفع الجمهور الإسرائيلي لعدم الإصغاء لنداءات حركة السلام الآن. وقد فسر غياب معسكر السلام شبه التام عن الحلبة السياسية في تلك الفترة للتأييد المطلق لهذا المعسكر لحكومة رابين بأي ثمن دون توجيه الإنتقادات إليها. وقد دفع اليسار ثمن غيابه عن الشارع وتخليه عن ناخبيه مرتين، الأولى بمقتل رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين، والثانية بفوز نتنياهو في إنتخابات مايو 1996، حيث إستغل بنيامين نتنياهو جبن اليسار بعد مقتل رابين وعقدة الذنب التي إنتابت قادته بعد توالي الأعمال التفجيرية الفلسطينية داخل إسرائيل (فبراير -مارس 1996)، ليسرق الفوز في الإنتخابات من العمل وبيرس بعد أن كان يتخلف عن بيرس بـ25 نقطة قبل أربعة أشهر من موعد الإنتخابات.

في إنتخابات العام 1996 جاء البرنامج السياسي لحزب العمل ضبابياً، فهو وإن يكن في خطوة متقدمة بالنسبة له حذف خلال مؤتمره المنعقد في 22/4/1996 البند الذي يحظر قيام دولة فلسطينية والذي كان وارداً في برنامجه لعام 1992، وإسقاطه البند الذي تكرر كثيراً في برامجه السابقة الذي ينص على إطار عمل فلسطيني أردني كونفدرالي، إلا أنه أبقى على النقاط التقليدية التالية في برنامجه: 

-   في المرحلة النهائية سوف نصر على وحدة القدس تحت السيادة الإسرائيلية(*).

-   لا جيش سوى جيش الدفاع الإسرائيلي غربي النهر.

-   السيطرة الإسرائيلية على وادي الأردن وغوش عتسيون ضرورة أمنية.

-   لا حق في العودة للاجئين العرب.

-   الإتفاق يجب أن يخضع للإستفتاء الشعبي(*).

بالنسبة للبرنامج السياسي لحركة ميرتس في تلك الإنتخابات، فقد بقي على حاله منذ عام 1992 دون تطور ولم  يشتمل على نقاط صريحة بالنسبة لأهم ثلاث قضايا، اللاجئين، القدس، المستوطنات. وقد إشتمل على النقاط التالية:

-   السلام مع الفلسطينيين سينقص مخاطر الإرهاب.

-   الإحتياجات الأمنية والفصل بين الشعبين سيتحقق بخلق دولة فلسطينية.

-   القدس موحدة لكن المصير النهائي يتقرر في المفاوضات.

-   لا جيش غير جيش الدفاع الإسرائيلي ولا منظمات إرهابية غربي النهر.

-   المستوطنات الصغيرة وسط الكثافة السكانية العربية يجب إزالتها، وينبغي منح سكان هذه المستوطنات إمكانية الإنتقال.

اليسار خلال فترة نتنياهو

كما ذكرنا آنفاً، إقتنص بنيامين نتنياهو الفوز في إنتخابات مايو 1996 من شمعون بيرس، لكنه إستلم كنيست منقسمة على نفسها (56 مقعداً لليمين و 53 مقعداً لليسار و 11 مقعداً للوسط)، الأمر الذي يعني حياة برلمانية صعبة بالنسبة لحكومة نتنياهو، ولكن اليسار الذي لم يستطع الإستفاقة سريعاً من أثر الهزيمة التي مُني بها في الإنتخابات، أتاح الفرصة لنتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة للتلاعب كيفما شاء بالإتفاقيات، بالمماطلة تارة وتشتيت المفاوضات إلى قضايا فرعية تارةً أخرى، منفذاً بذلك برنامجه الإنتخابي القائم أساساً على إلغاء كل ما تم من أوسلو، وإذا لم يكن في الإستطاعة، عدم تنفيذ المراحل المقبلة وهو ما نجح فيه نتنياهو بإمتياز في ظل غياب كامل لمعسكر السلام عن الساحة الإسرائيلية الذي لم يسجل له خلال العام الأول من حكومة نتنياهو سوى دعم إتفاق الخليل المعدل في الكنيست (20/يناير 1997) وبعض التظاهرات الإحتجاجية ضد قرار حكومة نتنياهو بدء البناء في جبل أبو غنيم (فبراير 1997). وقيام حزب العمل في مؤتمره الذي عقد في تل أبيب 14/5/1997  إقرار حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني والموافقة المبدئية على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة بشرط أن تبقى سماء هذه الدولة المنزوعة السلاح مفتوحة أمام الطيران العسكري الإسرائيلي. وقد أيد باراك الذي كان في حينه مرشحاً قوياً لرئاسة الحزب هذا الإقرار على مضض. فقد صرح للإذاعة الإسرائيلية (لقد وافقت على صيغة حق تقرير المصير للفلسطينيين وحقهم في إقامة دولة حرصاً على صون وحدة حزب العمل، وأن هذه الصيغة ليست منفصلة عن فكرة إقامة فدرالية أردنية فلسطينية(6)  حتى عندما تسلم باراك رسمياً زعامة حزب العمل في يونيو 1997، وبات زعيماً للمعارضة اليسارية لم نر فيه ذلك المعارض الشرس. ولولا بعض المناوشات في الكنيست لحزب ميرتس والأحزاب العربية لما شعر الجمهور بوجود مثل هذه المعارضة، بل على العكس كان نتنياهو الأقرب والأكثر إقناعاً للجمهور الإسرائيلي طوال ثلاثة أعوام من ولايته التي إمتدت من مايو 1996 إلى مايو 1999. ولولا الخلافات الشديدة التي دبت في معسكر اليمين، وبخاصة داخل الليكود وأدت إلى خروج أمراء الليكود الواحد تلو الآخر من الحزب، وخلاف نتنياهو مع أقطاب اليمين عقب توقيعه إتفاق الخليل وذهابه مضطراً إلى مؤتمر واي ريفر (أكتوبر 1998)، لما إستطاع اليسار بمساعدة فاعلة من بعض قوى اليمين تمرير قانون تقديم الإنتخابات في الكنيست ديسمبر 1998.

لم يأت سقوط نتنياهو في الإنتخابات الأخيرة، نتيجة لإحباط الشارع الإسرائيلي من نهجه السياسي، بقدر ما كان نتيجة لغياب المصداقية الشخصية لدى نتنياهو. يكفي أن نذكر أن باراك حتى شهرين من موعد الإنتخابات كان يتخلف عن بنيامين نتنياهو في جميع الإستطلاعات وكان فقدان المصداقية الشخصية لنتنياهو الشعار الرئيسي لحملة اليسار الإنتخابية سواء العمل أو ميرتس، حيث لم تتضمن البرامج السياسية لمعسكر السلام أي جديد تجاه القضايا المركزية مثار الخلاف مع الفلسطينيين، فيما يعبر عن غموض واضح ومقصود في هذه البرامج يهدف في المقام الأول إلى إصطياد الأصوات من شتى الإتجاهات، وبخاصة معسكر الوسط واليمين غير المتطرف بعد أن ضمن باراك تصويت معسكر اليسار تلقائياً، وهو المعسكر الذي لم يكن أمامه هدفاً سوى إسقاط نتنياهو ليس إلا.

ولم يأت البرنامج السياسي الإنتخابي لحزب العمل بجديد في هذه الإنتخابات سوى التأكيد على الخطوط الأربع الحمراء، التي أعلن باراك أنها ستحقق الفصل المادي بين الإسرائيليين والفلسطينيين وهي بقاء القدس الموحدة عاصمة إسرائيل الأبدية، عدم العودة إلى حدود الرابع من يونيو سنة 1967، عدم وجود جيش أجنبي غربي نهر الأردن، وبقاء معظم المستوطنين في كتل إستيطانية كبيرة تحت السيادة الإسرائيلية(7). بالإضافة لإعلان باراك عن نيته إجراء إستفتاء شعبي حول الحل الدائم مع الفلسطينيين.

معسكر السلام خلال إنتفاضة الأقصى2000

تمكن باراك منذ توليه زعامة حزب العمل من السيطرة على عملية صنع القرار السياسي داخل الحزب، وتحت شعار أنه الرجل الذي سيجلب لإسرائيل السلام الآمن، تمكن أيضاً من الإمساك بجميع خيوط التسوية، وأدار المفاوضات بصورة مركزية للغاية، وخلال هذه الفترة، إصطف معسكر السلام برمته وراءه ولم تصدر عنه مواقف مخالفة لسياسته. يقول الكاتب الصحافي "غي شيفر" :يبدو أنه لم يوجد سياسي أخطأ الجميع في إعتقادهم أنه ينتمي إلى يسار الخارطة السياسية وساهم مثلما ساهم باراك في إحداث تدمير كبير إلى هذا الحد في هذا المعسكر(8). وقد إتضحت نتائج هذا الإنزواء بشكلٍ جلي عقب فشل قمة كامب ديفيد الثانية وخلال إنتفاضة الأقصى الحالية. فقد طرأ تراجع ملموس على مكانة معسكر اليسار الإسرائيلي على الصعيد السياسي الداخلي منذ إندلاع الأحداث في الأراضي الفلسطينية، التي إرتفعت فيها حدة المواجهات الفلسطينية-الإسرائيلية إلى درجة غير مسبوقة منذ العام 1967، الأمر الذي كان يقتضي نظرياً تكثيف أنشطة قوى السلام على إختلافها لا تغييبها أو الحد منها(9).

ويُرد هذا التراجع إلى التحول الكبير في مواقف اليسار أثناء وعقب فشل قمة كامب ديفيد، حيث تقبل اليسار الإسرائيلي الرواية الإسرائيلية كاملة، بل أخذ كثير من قادة اليسار يبنى مواقفه على أساسها، وألقى باللائمة في فشل القمة على الجانب الفلسطيني، ولم يكلف نفسه الإستماع إلى وجهة النظر الفلسطينية حتى بعد نشر الكثير من تفصيلات ما جرى في كامب ديفيد وطابا من قبل جهات رسمية وشبه رسمية وصحافية دولية ومحلية، لكن مواقف معسكر اليسار تراجعت عما كانت عليه في صيف عام 2000، وانتشرت في بعض أوساط اليسار ظاهرة "التوبة" أو الردة التي كثر الحديث عنها في وسائل الإعلام الإسرائيلية، فالكثير من أعضاء اليسار عادوا إلى صف الإجماع القومي وأعلنوا توبتهم على صفحات الجرائد، وأصبحت مواقف بعضهم من التسوية أكثر تشدداً من ذي قبل. بالإضافة إلى ذلك، أخذت تبرز في مواقف بعض قوى اليسار إتجاهات جديدة مؤيدة لحلول سياسية لا تضع في حساباتها وجود شريك فلسطيني، بإعتبار أن هذا الشريك فقد مصداقيته، وبات يبحث عن حلول تطبق من جانب واحد، ومن زاوية مصلحة إسرائيلية صرفة وفي الإجمال أصبح معسكر السلام أكثر تشرذماً من أي وقت مضى.

فالمعسكر الذي كان برمته يدعم إتفاق أوسلو ويؤيد نهج باراك في إدارة مفاوضات التسوية، لم يكن يكلف نفسه طرح مشاريع أو خطط محددة تتطرق إلى التفصيلات الدقيقة بإستثناء الإعراب عن تأييده لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير ضمن حدود 1967 تقريباً، كما لم يكن موقفه من القدس واضح المعالم على الرغم من أنه كان يؤيد بصورة عامة مواقف حزب العمل القاضية بالإحتفاظ بالمدينة تحت السيادة الإسرائيلية، وضم المستوطنات والأحياء السكانية اليهودية التي أُنشئت حولها وفيها بعد سنة 1967، وإيجاد حل عملي يأخذ الوجود الفلسطيني في المدينة بعين الإعتبار. أما مواقفه من قضية اللاجئين الفلسطينيين فلم يكن يناقش ذلك على نطاق واسع بإستثناء تأييده لإيجاد حلول "إنسانية" لها. كذلك، فإن التطورات الأخيرة وضعت مواقف معسكر السلام على المحك نظراً لأن المفاوضات في كامب ديفيد وطابا إنصبت على التفصيلات الدقيقة للتسوية.

معسكر اليسار خلال حكم شارون

بعد إنهيار مفاوضات كامب ديفيد وطابا، وصعود شارون للحكم (فبراير 2001)، إنقسمت الآراء داخل هذا المعسكر وظهرت في صفوفه إصطفافات جديدة. ويصف الكاتب الصحافي دان مرغليت هذه الإنقسامات بقوله "في إثر الإنهيار تفسخ معسكر السلام إلى ثلاث كتل"، الأولى كتلة صغيرة الحجم لكن كثيرة الصخب، إستمرت في تأييد كل نزوة فلسطينية. الثانية وهي أساسية لم تتنازل عن إستعدادها للسلام القائم على حل وسط، لكنها فهمت أن عرفات رجل حرب، وبالتالي أبدت فطنة وأرسلت مندوبي حزب العمل إلى حكومة الوحدة الوطنية مع شارون، وبين هاتين الكتلتين تقف شرذمة مهندسي أوسلو(10).

في السادس عشر من أبريل 2002، وبعد 16 شهراً على إندلاع الأحداث في الأراضي الفلسطينية، سُجل أول ظهور خجول لمعسكر السلام، حيث سعى نشطاء هذا المعسكر إلى إسماع صوتهم من جديد وسط إحتدام الصراع وشراسته بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ذلك الصراع الذي بات يتطور من سيئٍ إلى أسوأ خلال الفترة الأخيرة.

فقد دعت أكثر من 25 حركة سياسية تمثل الخلفية الداعمة لمعسكر السلام، إلى إطلاق باكورة تحركها الجديد بالتجمع في تل أبيب، هذا التحرك الذي أعقب قيام مائتي جندي إسرائيلي بالتوقيع على عريضة يرفضون فيها تأدية خدمتهم السنوية لمدة شهر في المناطق الفلسطينية، وذلك في تحدٍ واضح لرئيس الأركان (شاؤول موفاز)، الذي أعرب عن عميق قلقه بشأن تطور ذلك إلى حالة من العصيان. ولكن هذا التجمع الذي شارك فيه (14) ألف إسرائيلي من حركة السلام الآن كان محدوداً للغاية، مقارنة بالأعداد التي كانت الجماعات اليسارية تحشدها عندما كانت إسرائيل غارقة في المستنقع اللبناني منذ عام 1982 حتى مايو 2000. وقد أمل نشطاء معسكر السلام من خلال هذا التجمع وضع حدٍ لتراجعهم على الساحة من خلال إستغلال الإحباط الذي يشعر به الإسرائيليون تجاه عجز الجيش الإسرائيلي عن قمع الإنتفاضة، وتصورهم بأن الرئيس عرفات لم يعد شريكاً في السلام. وحسب موري شلوموت مديرة حركة السلام الآن، المجتمع الإسرائيلي بدأ يفهم أنه لا يوجد حل عسكري للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وأن دائرة الدم لا تزداد إلا إتساعاً(11).

ما لبثت هذه الصحوة في معسكر السلام أن أصيبت بإنتكاسة كبيرة عقب قيام الجيش الإسرائيلي بشن عملية السور الواقي (5/4/2002)، التي أعقبت سلسلة من العمليات التفجيرية نفذها فلسطينيون داخل إسرائيل، أوقعت العشرات من القتلى والمصابين، الأمر الذي وفر الذريعة أمام المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل لتنفيذ هذه العملية، التي وجدت تأييداً واسعاً من الجمهور الإسرائيلي على كافة مشاربه. فقد أيد 90% من الإسرائيليين قرار شن عملية السور الواقي(12).

وقد أدت هذه الأحداث المتلاحقة إلى تدمير إمكانية الحديث عن السلام عقب المجازر التي إرتكبها الجيش الإسرائيلي في المدن الفلسطينية التي إجتاحها، وبخاصة في مخيم جنين، وحصار الرئيس عرفات الذي أبان بوضوح الأسلوب الذي تتبعه حكومة إسرائيل مع القيادة الفلسطينية ورئيسها.

في الحادي عشر من مايو 2002 سُجل نشاط آخر أكبر من سابقه لمعسكر السلام، وذلك بمشاركة أكثر من ستين ألف شخص في تظاهرة جرت في تل أبيب إحتجاجاً على إحتلال الأراضي الفلسطينية. وجرت التظاهرة بدعوة من حركة السلام الآن ومن إئتلاف من أجل السلام يضم عدداً من شخصيات اليسار ومن الكُتاب. وقد جاءت هذه التظاهرة بعد أن تعالت الأصوات الناقدة لتخاذل اليسار وصمته حيال ما يجري في الأراضي الفلسطينية من مذابح وإنتهاكات لأبسط حقوق الإنسان، وفي وقت علت صيحات الإدانة والإستنكار في جميع أنحاء العالم ضد إسرائيل التي باتت صورتها أكثر سوداوية، فكان لابد لهذا التحرك الخجول لتحسين هذه الصورة ليس إلا، وهي خطوة ليست ضمن باكورة خطوات، وإقتصرت على إلقاء بعض الكلمات من أقطاب اليسار التقليديين يوسي ساريد، ويوسي بيلين، دعت إلى إنهاء الإحتلال والتحرر من الإستيطان ومعارضة أي إجتياح قادم لقطاع غزة.

خلاصة

طالما أن معسكر السلام في إسرائيل يدرك إدراكاً تاماً كلفة الإحتلال التي يدفعها الشعب الإسرائيلي، الذي يسوقه شارون وبن إليعازر في صراع لا نهاية له تحت وهم الإنتصار على الفلسطينيين، وإسكات العالم الذي لا ينبغي له حتى مراجعة إسرائيل على أعمالها بحق الفلسطينيين، فإن الظروف تبدو مهيأة لخروج هذا المعسكر عن صمته ليوضح للرأي العام الإسرائيلي بعيداً عن بلبلة الإستطلاعات، مدى الأخطار التي تخلفها سياسة البطش الشارونية أولاً على الشعب الإسرائيلي، وثانياً على المنطقة بأسرها، وحتى تتم هذه الصحوة ويخرج هذا المعسكر من سباته، فإنه لابد له من صوغ برنامج سلام يتجاوز مقولات ما يسمى بالإجماع الوطني الإسرائيلي، ويحدد بدقة حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية المشروعة المُجمَع عليها دولياً، وإبداء الإستعداد لتحمل تبعات ذلك.

 

المراجع :


 

(*) كان شعار "بيرس يقسم القدس"، الشعار المركزي في حملة بنيامين نتنياهو الإنتخابية لذلك فإن حزب العمل حُشر في زاوية الدفاع عن هذه القضية.

(*) في هذه القضية أيضاً وقف حزب العمل في موقف الدفاع محاولاً التصدي لشعارات الليكود القائلة ليس للعمل تفويض للتنازل عن أجزاء من أرض إسرائيل الكبرى. ونذكر هنا أن بيرس إمتنع قبل الإنتخابات عن تنفيذ الإنسحاب من الخليل خشية إغضاب اليمين المتدين.


 

(1) معسكر اليسار الإسرائيلي، د.محمود خالد.

(2) توفيق أبو بكر، اليسار في إسرائيل والإنتخابات (الأيام 29/5/1996)

(3) الأيام، 28/5/2002.

(4) دراسات فلسطينية، ربيع 1992.

(5) دراسات فلسطينية،المرجع السابق.

(6) القدس، 15/5/1997.

(7) سلسلة أوراق إنتخابية، العدد السابع أبريل 1999، الصادر عن مركز التخطيط الفلسطيني.

(8) هآرتس، 30/10/2001.

(9) الدراسات الفلسطينية، شتاء 2001.

(10) دراسات فلسطينية، شتاء 2002.

(11) الأيام، 18/2/2002.

(12) مقياس السلام لشهر أبريل، هآرتس، 6/5/2002.


الصفحة الرئيسية | مجلة المركز | نشرة الأحداث الفلسطينية | إصدارات أخرى | الاتصال بنا


إذا كان لديك استفسار أو سؤال اتصل بـ [البريد الإلكتروني الخاص بمركز التخطيط الفلسطيني].
التحديث الأخير:
16/01/2006 12:16 م